| الثقافية
امتدادا لحديث سرديات السابقة حول اختلاف تناول العديد من كتاب القصة القصيرة في الجزيرة العربية لكثير من القضايا، نجد أن هذا الاختلاف حدث في مرحلة تالية لمرحلة نشأة القصة القصيرة التي ستتوقف عندها سرديات لاحقا، وأهم الأسباب أن مرحلة النشأة تتشابه في ظروف تركيزها على الجانب النفعي الإصلاحي المباشر, لكن فيما بعد أخذت القصة القصيرة تأخذ مناحي مختلفة في معالجتها.
في السبعينات مثلا، نجد أن الموضوعات التي تناقشها القصة القصيرة في البحرين وخصوصا في كتابات عبدالله خليفة ومحمد عبدالملك تركز على قضية الإنسان الكادح ومعاناته وتفاعله الإيجابي مع واقعه الاجتماعيداخل القصة فقط ، الأمر الذي يصل به إلى الرفض لهذا الواقع، وبالتالي يتمكن من النجاح في تحقيق متطلبات وضعيته الطبقية بالشكل الذي يتناغم مع توجه الواقعيةالجديدة .
وبهذا التناول كثيرا ماتكون ثمة رموز سياسية ودينية يتم التعامل معها بوضوح حذر.
وإذا انتقلنا إلى جزء آخر من الجزيرة العربية وأخذنا وليد الرجيب أحد كتاب القصة في الكويت، فإنه يتناول قضية العلاقة الاجتماعية من الزاوية الطبقية، بمستوى مميز على مستويات اجتماعية مختلفة، تأخذ العمالة الوافدة حيزا من هذا التناول, لكن قصص الرجيب خلافا لعبدالملك وخليفة لا تحرص على تحقيق الموقف الذي تتطلبه الواقعية الجديدة المتمثل في ضرورة انتصار الطبقة المغلوب على أمرها, فالعلاقة بين الأطفال مثلا تقوم على هذا الأساس الطبقي دون وعي من أحدهم بهذه الزاوية, وينجح الرجيب كثيرا في التقاط زوايا وصور اجتماعية تأتي في غاية التعبير عن هذه المستويات لكن بشكل يقترب من العفوية ظاهريا رغم دلالته العميقة, ومن ذلك مثلا قصة الشمس والإسفلت في مجموعته الثانية إرادة المعبود في حال أبي جاسم ذي الدخل المحدود ، والأمر نفسه يقال عن مجموعته الأولى تعلق نقطة تسقط طق التي تسير بكاملها تقريبا في هذا التوجه.
وحين ننظر إلى القصة في اليمن فإنه يستوقفنا بشكل كبير مؤصل فن القصة القصيرة في جنوب الجزيرة محمد عبدالولي, ورغم وضوح توجهه الفكري، فإنه لا ينعكس بشكل واضح على إبداعه القصصي، بل إنه يتجه نحو الواقعية النقدية، في تصويره للواقع الاجتماعي, وتأخذ قضية الهجرة والاغتراب والوطن، ثم أيضا على مستوى العلاقات الاجتماعية وتحديدا بين الزوجين وبين الأبناء والأب المهاجر, وتلعب الأم دائما الدور الأكبر وغالبا ما تتحول رمزا للوطن الأرض, وإحدى مجموعاته القصصية تحمل هذا التوجه بوضوح وهي مجموعة الأرض ياسلمى .
على المستوى المحلي، لا يتم التعامل مع بعض القضايا ذات الحساسية بوضوح، رغم توفر الوعي الاجتماعي والطبقي والسياسي, يعود ذلك إلى أن نسبة الحذر كانت أقوى لدى الكتاب في ظل الظرف التاريخي في تلك الفترة.
ولذلك يلجأ الكتاب إلى التغليف الشديد لموضوعاتهم المتفاوتة، الأمر الذي قد يصل إلى حد الغموض والإبهام لدى القارىء العادي مما يجعل القصص لا تنجح في كثير من الأحوال في التواصل مع القارىء, وإذا أخذنا مثلا المجموعات القصصية الأولى لعدد من كتاب القصة الرياديين على المستوى الفني وهم عبدالعزيز مشري وجار الله الحميد ومحمد علوان, فإن هذه المجموعات وكلها نشرت في نهاية السبعينات، ستؤكد هذه المقولة, وحين نقف عند عناوين هذه المجموعات فإنها تعطينا كثيرا من الإيحاء لدلالاتها ليست الاجتماعية فقط وإنما دلالات رمزية ذات أبعاد أقوى, وهذه المجموعات حسب ترتيب ذكر أصحابها هي موت على الماء ، وأحزان عشبة برية والخبز والصمت ، ولعل الدلالات ليست بحاجة إلى تفصيل أكثر.
لكن هذا الأمر قد تغير بنسبة كبيرة بعد عقدين من الزمن، وأصبحت القضايا التي تغلف بكثير من الغموض والرمز والإيحاء يتم التعامل معها بأسلوب أكثر مباشرة, والقضية هنا ليست اجتماعية أو سياسية وإنما كانت النزعة في مرحلة التحول الفنية في نهاية السبعينات قد قادت إلى التحول فنيا إلى القصص ذات البعد الرمزي، وهجر اللغة السردية الوصفية المباشرة إلى الأسلوب الإيحائي المقترب جدا من لغة الشعر, لكن بسببين رئيسيين، أولهما مساحة التعبير المتاحة، وثانيهما حدوث فجوة بين هذا النوع من النصوص والمتلقي، نجد كثيرا من الكتاب، ومنهم جار الله الحميد والمشري قد تحولوا إلى القصة المتواصلة مع القارئ العادي في لغتها وتناولها لموضوعاتها.
ومسألة الوصول إلى أكبر قاعدة قرائية من أهم العوامل، لكن المسالة الرقابية موضوعة في الاعتبار، في كافة أرجاء منطقة الجزيرة العربية, والمشكلة الكبرى مع الرقيب أكثر منها مع النظام السياسي، رغم التلازم الكبير بينهما، ولعل الرقيب السياسي غدا أكثر تسامحا من الرقيب الاجتماعي, لكن الملاحظ أن أصحاب القرار التنفيذي عادة ما يتسمون بالحذر الشديد لحماية النفس أولا، ولاظهار مزيد من الولاء بنوعيه الاجتماعي والسياسي, وإذا كان قل أن يطرح على هؤلاء تساؤل، لماذا لم يفسح هذا الكتاب، ولم يؤذن بطباعة ذلك الكتاب، فإن الأسئلة الأكثر هي لماذا سمح بدخول هذا الكتاب وبطباعة الأخر, ولذا في بعض مناطق الجزيرة العربية هناك فرق بين الأذن بالطبع، وبين السماح بدخول المطبوع, فبعض الكتب التي يجد الرقيب صعوبة في منحها إذنا بالطبع، يسمح لها بالدخول حين تطبع في الخارج، من منطلق أن المسؤولية الرقابية بأنواعها ستكون في مستوى أقل نسبيا, ولعله من الطريف أن يثار هذا الموضوع في زمن التواصل الإلكتروني القائم, لكننا نتعامل مع واقع تعيشه المنطقة.
ولعله يجدر القول أن المساحة التعبيرية أصبحت حاليا ذات فضاء أكثر اتساعا من ذي قبل في كافة أقطار الجزيرة، وظهرت أعمال قصصية متميزة بمستوى معالجاتها وتناولها لقضايا كبرى ذات أبعاد وطنية وقومية وسياسية.
|
|
|
|
|