| الثقافية
,, ولست أنوي هنا الكتابة عن الشيخ والبحر رواية الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي، وإنما أريد بهذا العنوان شيخاً ومشيخة أخرى وبحراً وإبحاراً آخر, أمّا الشيخ فهو عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس، وأمّا البحر فبحر الشعر بأحواله وأهواله.
وأنا أشتق عنواني من عنونة الشيخ لمجموعتيه الشعريتين: في زورقي ، وإبحار بلا ماء , وكأن الشعر قد ارتبط في وجدان الشيخ بالبحر في مدلوله الأشمل لا في معناه العروضي فحسب ارتباط البحر بكل مَهيب في مخيلة ابن الصحراء, تراه يخلص لمائه أسفاره اخلاص البحّار حياته للبحر، يخوض غماره قبطاناً يوماً وسندباداً رحالاً في عوالمه يوماً آخر، شاعراً أو ناقد شعر.
يبدأ رحلته كما يروي منذ سنة 1380ه، أي قبل أن نخلق، متع الله بعمره وبارك، وذلك بكتابه الأشهر: شعراء نجد العاصرون , ثم تتسع دائرة اهتمامه لتشمل الشعر في الجزيرة العربية خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، ط, 1394ه، ليتتابع نتاجه بعدئد: في زورقي، ط, 1404ه ، كلام في أحلى الكلام دراسات شعرية، ط, 1410ه ، عزف أقلام: في النقد والمناقشات الأدبية، ط, 1412ه ، إبحار بلا ماء، ط, 1419ه ، وهو بعد يعدنا بديوان قادم ينافس أخويه السابقين, هذا إلى مقالاته المتفرقة التي ما ينفك فيها يحدب على الشعر غيرة وينافح عنه ضد عوادي الناس والأجناس, ها هو ذا يقول في مخاطبة شعرائنا الذين تفجرت مواهبهم الروائية بآخرة من مقدمة ابحار بلا ماء: ص 6 .
الشعر هو رئة العربي يتنفس من خلالها آلام الحياة وهمومها ,,, , الشعر ملك الكلام البشري المتوج، وما سواه من فنون القول والكتابة لا تعدو أن تكون عاملة في بلاطه الملكي,, .
أهو التعصب؟!,, لم لا,, وحبذا التعصب للشعر,, حبذا التعصب للإنسان في الانسان,, وللغة في اللغة,, وللأصل الذي تناسلت في البدء عنه ذرية الأجناس الفنية، رغم أنف ابنه العاق، أبي الفنون المزعوم.
ها الشيخ بعد الخمسين ، يطربك بايقاعه العمودي العريق:
أبنيَّ إن أباكمو قد أكهلا وطوى المسافة مصعداً متعجلاً ورمى على الخمسين قامة ظلّه متأملاً من عمره ما أهملا يحيا على عجب لسالف دهره ان كان ذا رأي يعيق المأملا ركضت خيول الحظ يسبق بعضها بعضاً وخيل ابيكمو لن تجفلا,. |
تطربك فيه أصداء الأسلاف، وجزالة العربية,, ولا غرو فهو حفيد الصمة القشيري 95ه ويزيد بن الطثرية 126ه واضرابهما من فحول الشعر الأموي تحديداً، الذين يحيون بيننا في مثل هذا الشعر، لكن الشيخ يبقى متشبثاً بجذوة البيت الفرد في وحدته وإن على حساب النص في لحمته الكلية,, جذوة يستنشئها استنشاءً مع مستهل كل بيت بفعل جديد: ورمى,, يحيا,, ركضت,, مثلما هو مستمسك بما يدعوه شكري المبخوت بجمالية الأُلفة ، التي كانت قد أسست لها مقولات النقد العربي القديم، من: تجنُّب مخالفة العرف والإتيان بما ليس في العادة والطبع، حسب قدامة بن جعفر: نقد الشعر ، منعاً لاستيحاش السامع من الكلام الجائر والخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر ، على حد قول ابن طباطا العلوي: عيار الشعر , وهذا ما كان يحول في اللغة التصويرية دون افتراع علاقات جديدة بين المفردات الشعرية.
وبما أن الشيخ بحار عربي ماهر، فقد كانت شعرية نصوصه تخسر كثيراً من توهجها في ركوبه نهر التفعيلة، لأن هذا الشكل لم يكن لديه يمتلك داخلياً ما يعوّض عليه شعرية البناء البيتيّ الباذخ، الذي كانت قوة عارضته الشعرية تتوثَّب فيه بصوت جهير, بيد أن هذه العارضة على قوتها لا تنجو حال الشعر بعامة من أن تعتورها النظمية الصرفة أحياناً، كما في قصيدته أسرجت بيتي , وتتبدّى ملامحها في ركوب ضرورات شعرية، كظاهرة قصر الممدود, لعلها أثر من مراحل التلقي الأولى للمنظومات التعليمية بصفة خاصة، التي يلحظ ان أثرها قد بقي عالقاً بشعر أحد أقطاب القصيدة الحديثة كذلك، وهو البردوني يرحمه الله, وذلك مثل قول الشيخ: آل الخليفة يا أبنا أرومتنا: ص 29 , أو حتى ربما ألجأته القافية إلى ما يبدو ضرورة نحوية:
لا يعرف الفضل إلا من ذووه ربوا عليه، وانغرست في طبعهم شيما |
تلك تحية اكبار للشيخ في ابحاره ومائه الزلال!,.
*آداب جامعة الملك سعود قسم اللغة العربية
|
|
|
|
|