| الثقافية
روايتي الثانية عَو ، كتبتها مدفوعاً بقوة التعبير عن حالنا العربي الموازي لزمن الانتفاضة، أو الوجه الآخر للأمواج البرية، وقد كانت بذورها الأولى قد ظهرت في قصيدتي الطويلة الفتى النهر والجنرال 1987 وفيها بدأت شخصية الجنرال بالظهور لتحتل مكانة بارزة في كتابتي، ولكن، يبدو أن القصيدة رغم طولها الف بيت تقريباً وتجسيدها الدرامي لشخصية الجنرال في حالة الصراع مع الفتى والنهر يلعب النهر دوراً رئيساً كشخصية متكاملة في القصيدة إلا أن القصيدة فيما يبدو لم تلب النداء كاملاً، وأمام قوة وتأثير الانتفاضة والاحساس بعزلتها، وجدت نفسي أتجه لكتابة الوجه الآخر لكتاب الأمواج البرية ، أو صورة الشارع العربي.
هكذا ولدت الرواية الثانية، دون أي قرار مسبق بأن الرواية ستكون جزءاً من تجربتي الأدبية، أو بأنني أسعى لأن أكون روائياً وشاعراً، وقد كانت تجربة كتابتها قاسية عليَّ على المستوى الإنساني، فثمة فصول فيها وضعتني على حافة انهيار عصبي حقيقي، وخاصة ذلك المشهد المتعلق بذبح الإبن.
كنت أتأمل حال الانتفاضة وأرى أنها اندلعت في الفترة التي انفض فيها الشارع العربي عن احلامه، وكثير من المثقفين العرب عن المبادئ الكبرى لشعوبهم بتحولهم إلى مثقفي ضد أو عَوَّات ، كنت أشعر أن فلسطين محاصرة من الخارج بالقسوة نفسها التي تحاصر بها في الداخل، فبدأت العمل على دراسة علاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي، وكانت الموجة المتمثلة في الدعوة لتجسير الهوة/ العلاقة بين المثقفين والسلطة قد بدأت تأخذ أبعادها في حياتنا الثقافية، مستظلة بأكثر من ذريعة وأكثر من يأس, وكنت أدرك ان هذه الرواية لن ترى النور بسهولة، وهكذا تأخر نشرها عامين كاملين، وقد دار نقاش طويل حول عنوانها بيني وبين ناشري فيما بعد، وكان تمسكي بالعنوان راجعاً في الأساس إلى أن أي كلمة لن تفي بالغرض، أو تعبر عن الحالة التي ترصدها الرواية فعَو في حياتنا الشعبية الفلسطينية والعربية بشكل عام تدل على صوت الكلب: النباح، وعلى مصدره: الكلب, كما أنها مفردة تخويف حين يتجاوز الكلب دوره كنابح ليتحول إلى قوة لبث الرعب, ولذا كان هذان الحرفان عو الاختصار المعبِّر لحالة المثقف النابح، وحالة نباحه وحالة الجنرال كمصدر للرعب ايضاً, ولم يمض وقت طويل على صدورها حتى بدأت علائم الانهيار والارتداد تأخذ ابعادها الواقعية، بعد مجموعة الانهيارات العالمية والعربية والتمهيد النظري الذي شكل قطعة الصابون التي انزلق عليها كثير من المثقفين، مع ما رافقها من حالة استسلام، كشفت بوضوح أن من يريد الارتداد فان بذور الارتداد كانت فيه، وكانت المشكلة فينا طوال الوقت لأننا لم نرها.
رواية عو إذن كانت حكاية أخرى من حكايات الترويض بالحرير أو بالجزر، لا بظلام السجن والعصا.
ما يهمنا هنا، أن هذه الرواية، التي افادت من تجربة الأمواج البرية بابتعادها عن أن تكون مثلها، أي نصاً مفتوحاً دون حدود على الأنواع الأخرى حتى الضياع، التقطت شيئاً أساسياً من الأمواج وهو مبدأ المشهد أو الفصل القصير جداً، بدل الفصول الطويلة، مستعيرة من السينما مشهديتها وقدرتها على تكثيف الزمن والتجول فيه بحرية، والايقاع المتدفق وتحريك الاحداث في مكانين متباعدين يجمعهما زمن واحد, ومن هنا كان عدد فصول الرواية أو مشاهدها ما يقارب مائتي مشهد في مائة وثمانين صفحة تمثل حجم الرواية, لكن ما حدث أيضاً في هذه التجربة، انها تخففت من اللغة الشعرية لأسباب موضوعية تختلف عن تلك التي أملتها تجربة براري الحمى ، وكان لذلك عدة أسباب من بينها انني لم أكن ممن يؤيدون قيام كاتب ما بكتابة أعماله كلها بلغة واحدة، أو داخل أجواء واحدة، وكان لي في السينما مثال حي، بمعنى انني كنت أحب أن يكون للرواية جوها الخاص بها، وجغرافيتها وهموم بشرها الخاصة، لأن في عكس ذلك مساساً بأكثر الفنون ديمقراطية، وأعني هنا الرواية, وعبر تأملي الخاص الذي لم يتحول بالنسبة لي إلى يقين حتى الآن، وأظنه لن يتحول، فقد اكتشفت من خلال تجربتي انني كلما اقتربت من البري المتوحش البكر، صحراء كان أم غابة أم سواهما، فإنني أقترب من البناء الاسطوري للعمل الروائي، وكلما أوغلت في المدن اقتربت أكثر من الكابوس, وبين لغة الاسطورة ولغة الكابوس مسافة، ترتفع فيها الأولى على تخييل الشعر وقوته وصفائه، وتذهب الأخرى باتجاه تقشف حاد وجارح وصادم، لا يتحمل الكثير من البلاغة.
|
|
|
|
|