| الاخيــرة
بينما كنت أهم بتناول أحد أجزاء تاريخ المؤرخ البريطاني المعاصر والشهير (أرنولد توينبي) لأعاود الاطلاع فيه - بعد هجر طويل - اذا بكتاب (لمحات من تاريخ العالم) للبنديت جواهر لال نهرو، يسقط في يدي,, وكان يتكىء على كتاب توينبي، حسا لا معنى، من أحد رفوف مكتبتي,, فلم أكره ان أتجه الى هذا الأخير، وبخاصة أن جواهر لال نهرو الزعيم الهندي الشهير ربما هو أقرب الى العرب والمسلمين وجدانيا من المؤرخ البريطاني,, من حيث المنطلقات السياسية والمعاناة المرة التي عاشها كل من العرب والهنود تحت سطوة التاج البريطاني.
من البداهة أن نقول عن كل من الرجلين المؤرخين المشار اليهما، إنهما ليسا مسلمين حتى نقول إنهما يتعاطفان مع العرب والمسلمين,, بل هما مختلفان فيما بينهما، دينيا كل الاختلاف، فالمؤرخ، توينبي نصراني، والهندي نهرو,, برهمي,, وثني، لكن كلاً منهما يتسم الى حد معقول بالانصاف والاعتراف بفضل العرب قبل الإسلام، وفضائلهم الكبرى والعظمى على العالم بعد حملهم رسالة الاسلام السماوية وخاتمة الرسالات الإلهية الى البشر كافة.
* * *
وقبل أن أصل الى ما يعنيه عنوان المقال,, أشير الى أن هناك فارقا بين (ارنولد توينبي) و(جواهر لال نهرو) في أسلوب وسياق كتابة التاريخ ومنطلقاته,, فالمؤرخ البريطاني يكتب تاريخه بعمق فلسفي، وبصعوبة في لغته بالغة التعقيد والغموض,, لأنه يكتب - كما يقول المترجم - لجهابذة العلماء والمفكرين.
أما المؤرخ والزعيم الهندي (نهرو) فهو يكتب تاريخ العالم بأسلوب في غاية التبسيط والوضوح والأناقة معاً,, وكتابه هذا تاريخ في صفة (رسائل) يبعثها لابنته (انديرا غاندي) من سجنه.
يقول في السطور الثلاثة الأخيرة من إحدى رسائله الى ابنته بتاريخ 5 يناير 1931م إنك الآن في أنان باوند، وأمك في سجن ملكَّا، وأنا في سجن نيتي, إننا نشعر بالوحدة، ولكن علينا ان نفكر بيوم لقائنا الذي أتطلع اليه بشوق، إن مجرد التفكير بذلك اليوم ينير فؤادي ويملأه بالأمل والنشوة ص 17.
* * *
لقد أغرتني إحدى رسائله لمعاودة قراءتها مرة ثانية وهي بعنوان مجيء الإسلام كتبها بتاريخ 21 مايو 1932م.
تحدث في هذه الرسالة الى ابنته عن الجزيرة العربية وقال الجزيرة العربية بلاد صحراوية, وللصحراء والجبال أثر في جعل الناس أشداء يحبون حريتهم ويأبون الضيم, وكانت الجزيرة فقيرة فلم تغر الأجانب الغزاة أو المستعمرين ص 22.
* * *
مآخذ على بعض مقولات نهرو
1- يقول بعد السطرين المتقدمين (وكان فيها يعني الجزيرة مدينتان قريبتان من البحر وهما مكة ويثرب, وكان يلازمهم الجمل السريع والحصان الجميل والحمار الذي كان يعتبر صديقا وفيا لما عرف عنه من صبر وجلد، وكان الانسان يسر اذا شبه بالحمار,,! مع ان أهل البلدان الأخرى يثورون غضبا (اذا شبهوا بالحمار,,)!
ياللفجيعة,, من هذه الفرية التي ألصقها نهرو بسكان الجزيرة,,!
هل رأيتم أو سمعتم أن أحداً يُسرُّ اذا شُبّه بالحمار,,؟! كلا,, يثور ثورة عارمة لا تهدأ إذا شبهه أحد بالحمار,,, فالعبارة شتيمة قاسية,, والمعروف عرفاً عند الناس هنا ان يشبه الرجل بالحصان في شممه ورجولته,, لا بالحمار البليد.
2 زعم نهرو أن العرب، قبل الاسلام كانوا يحجون الى مكة (لزيارة الآلهة التي صورها على شكل أوثان وعبدوها، بالاضافة الى الحجر الأسود).
أما ان أهل الجاهلية يعبدون الأصنام، وقد وضعوا كثيراً منها على جوانب الكعبة فهذا صحيح, ولكنهم حسب علمي لم يكونوا يعبدون الكعبة ولا الحجر الأسود,, ربما احتراما لملة إبراهيم عليه السلام وملته الحنيفية التي كانت لها بقايا لدى العرب في عهد الجاهلية، وكان من اتباعها المشهورين (ورقة بن نَوفَل) و(قُسُّ بن ساعدة الايادي).
3 (كان عرب الصحراء ذوي عزة وأنفة وشعور مرهف) هذا وصف جميل ومحبوب للعرب، ولكن نهرو يتلوه بالعبارة التالية (ومولعين بغزو بعضهم البعض) ص23.
فولعهم بغزو بعضهم البعض ليس من السمات التي يمدحون بها,, فكان الصواب أن يجعل هذا الأمر استثناءً يستخدم فيه إحدى ادوات الاستثناء نحو (لكن) أو (غير) أو (سوى),, الخ.
وهذه الهفوات من زعيم الهند الكبير، لا تقلل بطبيعة الحال من قيمة الكتاب خاصة أنه أثنى على العرب بعد ظهور الإسلام ثناء عاطراً، وذكر فضلهم على الحضارة العالمية بما هم أهله وجديرون به, إلا أنه لا يوجد من عربي واحد وخاصة بعد أن شرفنا الله بالاسلام، من يرضى, فضلا عن ان يُسَرَّ أو يعتز، بانه (حمار)!
فالعربي في حواضر الجزيرة العربية وبواديها لا يعتز إلا بالخيل أو الإبل، حتى انهم ليمتدحون الفتاة بأنها (مهرة) وهي الفرس الصغيرة، والرجل بالحصان، بل يعتزون بدَبلِ حوافرها كدليل عزة وقوة وشموخ حتى إن أمهاتنا رحمهن الله، كن ينزلننا من سطوح المنازل الى أسفل البيت الطيني الدامس الظلمة لإحضار شيء كماء أو أكل, فيشجعننا بهذه الأغنية الطفولية التي تقول:
(مِن ذا دَبكِه دَبكِ الخَيل دَبك (فلان) في الليل,,,)
|
|
|
|
|