| مقـالات
عندما يتحدث المفكرون عن العولمة وآثارها فإنهم يشيرون إلى الخطر المتوقع المتمثل في القضاء على هوية الشعوب النامية، ويربطون ذلك بالاكتساح الثقافي الذي تمارسه قوى العولمة الكبرى، من دول عظمى، وشركات عملاقة، ومؤسسات إعلامية طاغية, ويذهبون إلى أن طمس الشخصية العربية الإسلامية من أكبر أهداف الغزو الثقافي ونتائجه.
كما يشيرون إلى أن ربط البلدان النامية بتلك القوى الكبرى لن يتم إلا على حساب المكونات الأساسية للثقافات الأصيلة، وتسخير هذه البلدان لتقبل الثقافة الوافدة حتى تصطبغ بصبغتها، وتدور في فلكها باستسلام كامل، واقتناع داخلي.
ومن الخطأ أن يلوم أحد هذه القوى الكبرى على ما تقوم به، فهي تفعل ذلك في حدود البحث عن مصالحها الذاتية، المرتبطة بالمردود النفعي دون النظر إلى المبادىء الأخلاقية أو المواقف الإنسانية.
وما دام مستقبل العولمة ينذر بهذا الوضع فإن من الواجب علينا، عرباً ومسلمين ، أن نحاول قدر الإمكان التصدي لهذا الخطر، لا بالشعارات والكتابات الجوفاء، ولكن بالعمل الجاد المنظم الذي يكسبنا المناعة ضد أخطار العولمة وشرورها، ويجعلنا نشارك الآخرين في معطياتها ومنافعها, ومن هنا فإنه لابد لنا من أن ندقق النظر في علاقتنا بالأشياء التي تتصل بهويتنا وشخصيتنا، فنحدد علاقتنا بها كما يجب أن تكون لا كما يريد الآخرون.
ومن الطبيعي أننا ونحن ننظر في هذه العلاقات أن نوازن بين الأمور فإذا كان من المعقول أن نتعامل مع ظاهرة العولمة بالحذر المطلوب فإن من غير المعقول أن نتحصن منها بالرفض الكامل والانعزال عن العالم، أو ننسحب من المواجهة بالهروب والانكفاء على الذات، فذلك لا يكسبنا المناعة بقدر ما يجعلنا هدفاً سهلاً للتحطيم, وإذا كان لنا أن نفعل شيئاً في هذه المواجهة فإن من الواجب علينا أيضاً أن نبادر بالعمل مسرعين، ذلك أن الأحداث تتوالى، والعالم يسير بسرعة مذهلة، وقد يأتي الوقت الذي يصعب فيه تدارك ما فات.
ومن أهم الأمور التي يجب أن نحسم علاقتنا بها موضوع اللغة الأجنبية,, ولست في هذا المقال أو غيره أدعو إلى مقاطعة اللغة الأجنبية أو الاستغناء عنها، ولا أدعي عدم فائدتها,, ولكنني أدعو إلى تنظيم علاقتنا بها مع الإقرار بأهميتها في بعض شئون الحياة.
إن اللغة من أهم ملامح الشخصية الإنسانية إن لم تكن أهمها,, فقد يجتمع لديك العديد من الأشخاص المتشابهين في صفات أجسامهم وملامح وجوههم، ولكنك لا تعرفهم حق المعرفة حتى تعرف اللغات التي نشأوا عليها وتحدثوا بها، فهي التي تربطهم بالجغرافيا والتاريخ,,
تربطهم بالأرض التي قدموا منها والثقافة التي ينتمون إليها, ومن هنا فإن إضعاف اللغات القومية وإحلال اللغات الأجنبية القوية مكانها يعد شكلاً من أشكال الاحتواء في عصر العولمة.
بل هو شكل من أشكال تحطيم الثقافات لدى الشعوب الضعيفة، وإضعاف انتماءاتها إلى حضاراتها الأصلية,
وسواء أكان هذا الأمر مخططاً تسهر عليه مؤسسات أجنبية كبرى، أم كان عشوائياً متمثلاً في إعجاب المغلوب بلغة الغالب وجريه وراءه كما أشار إلى ذلك فيلسوفنا الفذ ابن خلدون فإن النتيجة واحدة وهي القضاء على اللغة الأصلية، وإحلال اللغة الأجنبية محلها.
والناظر في الوضع اللغوي لدينا يجد أن اللغة الإنجليزية قد اكتسحت المنزل والمدرسة والسوق، وبدأت تتحكم في كثير من مناحي حياتنا,
بل ظهرت أصوات من بني جلدتنا تتعالى وتطالب بتعليمها لأطفالنا منذ الصغر، وظهر آخرون يرون أن تدرس بها العلوم جميعا، وبدأت مدارس بالفعل في ذلك، وهنالك دعوات لفتح أبواب المدارس الأجنبية لأبنائنا حتى يتمكنوا من دراسة العلوم جميعها باللغة الإنجليزية.
وأصبحت اللغة الإنجليزية مطلبا أساسيا للوظيفة، وإن كانت الوظيفة تؤدى في محيط عربي لا يستدعي اللغة الأجنبية، وتحولت مستشفياتنا وفنادقنا، وبعض أقسام جامعاتنا، وكثير من معارض البيع في أسواقنا إلى بيئات أجنبية يتبادل فيها العرب اللغة الإنجليزية، واصطبغت لوحات المحلات في شوارعنا بألفاظ أجنبية، كتبت باللغة العربية, وهكذا طغت اللغة الإنجليزية على حياتنا، وهي في كل يوم تحقق انتصارا في مجال من مجالات الحياة، وموقعا من مواقع المجتمع, واذا احتلت موقعا من هذه المواقع أقصت عنه اللغة العربية، وتكاد بعد دخول عصر الإنترنت والفضائيات أن تنتزع لغتنا من ألسنتنا، بل أن تفرغ منها أدمغتنا!!.
والسؤال الذي يجب أن نسأله أنفسنا في هذا العصر الهائج المائج بكل ما هو غربي,, ما الذي نريده؟ هل نريد أن ننسلخ عن هويتنا العربية الإسلامية فنهاجر بعقولنا وألسنتنا إلى الغرب، ونمسخ خواجات، ونتحول إلى مخلوقات تفكر بعقول أولئك القوم وترطن بألسنتهم ,,,,؟,,.
هل نتخلى عن إسلامنا، وتراثنا، وشخصيتنا المتميزة بين البشر في سبيل منافع آنية، أم نقف ضد تحطيم ثوابتنا، ونبني أنفسنا تدريجياً في سبيل المشاركة بالحضارة المعاصرة، من منطلق الاعتزاز بأنفسنا، والحفاظ على هويتنا وانتمائنا إلى حضارتنا؟
إذا كان الأمر المعقول هو الالتصاق بثقافتنا ولغتنا والتحصن بإسلامنا وتراثنا، فإننا مطالبون بأن نحدد علاقتنا فيما يخص الثوابت بما ينسجم ومصلحتنا العامة، لا بما ينسجم وغاياتنا الآنية، وأن ننظر في الأمور باعتبار ما ستؤول إليه، لا باعتبار ما تبدو عليه في اللحظة الراهنة.
ومن هذه الأمور التي يجب أن نحدد علاقتنا بها اللغة الأجنبية، فلا بد أن ننظر في الحجم الذي يمكن أن نسمح لهذه اللغة الأجنبية أن تتمدد به في مجتمعنا, كي لا تزاحم لغتنا العربية، فتكون معولاً لهدم ثقافتنا بدلاً من أن تكون مساعداً لنا على النهضة والتقدم.
ومن أجل ذلك، فإن من المناسب أن نناقش محاور هذا الموضوع كلاً على حدة,.
ولعل أهم هذه المحاور في نظري ما يأتي:
1 تعليم اللغة الإنجليزية للصفوف الأولى من التعليم العام.
2 تدريس العلوم باللغة الإنجليزية في الجامعات.
3 اللغة الإنجليزية وسوق العمل.
4 اللغة الإنجليزية والمجتمع.
5 اللغة الأجنبية ومقياس التقدم.
1 اللغة الإنجليزية في التعليم العام المرحلة الابتدائية :
لقد طالب بعض الكتاب بإدخال اللغة الإنجليزية منذ الصفوف الأولى للتعليم العام، وتقوم المدارس الأهلية بتدريس هذه اللغة باعتبارها مادة إضافية منذ سنوات, وقبل أن نقرر صلاحية هذا المقترح أو عدم صلاحيته علينا أن نسأل أنفسنا السؤال الآتي: هل اللغة الإنجليزية ضرورية لكل مواطن؟ وهل تتساوى أهميتها بأهمية اللغة العربية له؟.
وللإجابة على هذا السؤال فإننا لا نتردد في القول بأن اللغة الإنجليزية ليست ضرورية لكل مواطن بحيث يمكن أن تدرس بوصفها لغة ثانية، فليس بيننا ولله الحمد، جماعات مواطنة تتكلم اللغة الإنجليزية، وتساكننا في بلادنا فنضطر إلى كتابة لغتها على محلات النفع العام، أوالشوارع أو تدريس لغتها والتحدث معها بهذه اللغة كما يحدث في بعض بلدان أوروبا أو كندا أو بعض ولايات أمريكا ، فنحن ولله الحمد جميعاً عرب مسلمون، نتحدث العربية، وننتمي إليها ، ولا نحتاج، ضرورة، لتكون لدينا ثنائية في اللغة، أما المقيمون في هذه البلاد من الأجانب فوضعهم مؤقت سينتهي عندما يتولى المواطنون وظائفهم ولذلك فإن مثل هؤلاء لا يحسب حسابهم عند التخطيط للتعليم الوطني.
إن الإنسان العادي في المملكة شأنه شأن الإنسان العادي في جميع أنحاء العالم ومن ذلك معظم دول أوروبا يعيش حياته بنجاح دون أن يحتاج إلى اللغة الإنجليزية، لأن احتياج المواطن إلى لغة أجنبية ليتفاهم بها في بلاده هو خلل كبير يجب تصحيحه, فالأساس أن تكون اللغة الأم هي صاحبة السيادة في البلاد، وما عداها من اللغات لا يكون لها ظهور بأي وجه في المجتمع.
إن أهمية اللغة الأجنبية تندرج حسب اهتمامات الأشخاص، والمواقع التي يحتلونها في المجتمع، من حيث قربها من مصادر هذه اللغة أو بعدها عنها.
ولذلك فإن اللغة الإنجليزية قد تكون مهمة جدا لبعض الناس الذين تتصل أعمالهم بها اتصالا مباشرا، ولكنها تكون أقل أهمية للآخرين، بل إن الحاجة إليها تنعدم إلى درجة الصفر عند كثير من الناس الذين يجب أن تقدم لهم الخدمات والاحتياجات في بلادهم باللغة العربية، كما يحث لمعظم مواطني بلاد الدنيا.
إذن ما دامت اللغة الإنجليزية غير ضرورية لكل مواطن، ولكنها مهمة لبعضهم وتتدرج أهميتها حسب الاختصاص والثقافة والموقع، فليس هنالك ما يدعو إلى تعليمها منذ الصفوف الأولى في المدرسة, لأن التعليم العام ملزم بتقديم الضروريات، التي لا يستغني عنها المواطن في حياته، أما ما يتفاوت فيه الناس فإن ذلك متروك لكل شخص على حدة، فهو أقدر على إشباع رغباته واحتياجاته الثقافية بالطريقة التي يختارها، من غير فرض أو إجبار.
فإذا كانت هذه النتيجة منطقية فإن من الشطط الكبير أن نفرض على أبنائنا تعلم اللغة الإنجليزية منذ نعومة أظفارهم، وأن نتمادى بتدريسهم المواد العلمية بالإنجليزية، فنضيف إلى المجهود الذي يبذلونه في فهم المواد مجهودا آخر يتمثل في فك رموز اللغة الأجنبية، وحفظ مفرداتها والإلمام بقواعدها.
ونشتت أذهان هؤلاء الصغار بين لغتين، مما سوف ينتج عنه آثار سلبية على هؤلاء الأطفال، تتمثل في الازدواجية اللغوية، التي تجعل اللغة الأجنبية مساوية للغتهم الأم، الأمر الذي يضعف لديهم الانتماء الوطني، والارتباط بالثقافة العربية, فإذا أضفنا، إلى ذلك، البريق الذي يرافق اللغة الإنجليزية بما أتيح لها من مناهج حديثة، وكتب جذابة، وطرق تدريس متطورة، وما تحاط به من فنون الإعجاب والانبهار الغوغائي، وجدنا أن المردود النفسي لدى صغارنا حول اللغة العربية سوف يكون في غير صالح هذه اللغة، التي تمر بوضع بائس في التعليم, وكأننا بذلك نؤسس إن لم نكن نكرس النظرة الدونية التي تنتشر في بعض الأوساط إلى اللغة العربية.
ناهيك عن الأموال الطائلة شبه المهدرة التي سوف تتكبدها مؤسسات التعليم العام في الاعداد لهذه الدروس الإنجليزية، وشراء كتبها الأجنبية الباهظة الثمن، واستيراد معاملها المكلفة، واستقدام المعلمين الأجانب الذين يديرون عجلة هذا التعليم.
ولعلنا نتساءل في هذا المجال، إذا كان تعلم اللغة الإنجليزية في الصفوف الابتدائية مطلبا حضاريا، فأي الدول المتقدمة الكبرى مثل فرنسا وألمانيا والصين وروسيا أخذت بذلك ,,, ؟ ولماذا حُرمت هذه الدول من خيرات اللغة الإنجليزية وتركتها لتنعم بها بعض الشعوب النامية ,,,, ؟.
وما الذي أفادته هذه الشعوب النامية من ذلك التعليم، وقد مضى على بعضها أكثر من مائة سنة، تدرس فيها العلوم منذ الصفوف الابتدائية باللغة الأجنبية فرنسية أو إنجليزية ,,,,,, ؟
إن الأجدر بالطفل الصغير أن تخصص سنواته الدراسية الأولى لإجادة لغته العربية، والارتباط بثقافته، وتنمية المحبة لها من خلال الولاء لبلاده، وتراثه وأمته, وأن يستغل كامل وقته من أجل أن يلم بالمهارات الأساسية، ومنها النطق بلسان عربي فصيح، والتعبير بفكر متناسق واضح، لا أن يتلجلج لسانه بالرطانات، ويشوش دماغه بالانتماء لعدة لغات.
*عضو مجلس الشورى .
|
|
|
|
|