| شرفات
عاش آرتو مايزيد عن نصف قرن شاهدا على حربين عالميتين ضاربتين شاهدا على واقع قاس حتى اخر حدود القسوة, عاش متوترا في عصر التوتر، مناضلا ضد قوة الواقع بقسوة اشد على الذات, احيانا يتلمس الخلاص في طقوس ذات طابع شرقي، او في الافراط في الحسيات والانغماس فيها, كيف يفعل هذا بنفس الاخلاص المتوهج؟ البعض كان يراه في كامل قواه العقلية حين يلتزم بالرأي الموافق، ويراه مجنونا لايدرك ما يقول حين ينطق بالرأي المضاد,!! والحقيقة انه من المستحيل رسم خط فاصل وحاد بين لحظات صحوه ولحظات جنونه .
لم يشك ارتو قط بان تأثيره كفنان ومعلم يعتمد على كونه قادرا عل تجسيد تعاليمه وفنه: يطمح الاخرون الى خلق اعمال فنية اما انا فلا اريد اكثر من اظهار روحي وفي رحلة البحث عن الذات اعلن ارتو افكاره وان لم يكن فيلسوفا وان عجز عن التعبير احيانا وكان عشقه الاول والاخير للمسرح ، حيث عمل ممثلا ومؤلفا ومخرجا ومصمما للديكور، محاولا بكل اخلاص تثوير المسرح، ولذلك اسس مسرح الفريد جاري وقدم عدة عروض الا ان المشروع هوجم من الصحافة وفشل فشلا ذريعا وتكررت محاولته المستميتة بحثا عن الدعم المادي والمعنوي لتأسيس مسرح يعبر عن ذاته الثائرة.
ثم جرب آرتو ايضا التمثيل للسينما، التي كانت مجالا رحبا لافكاره السريالية وقدم عددا من الادوار الهامة مثل دور الراهب في فيلم آلام جان دارك ، ودور مارا في فيلم نابليون وكان اكثر استماتة بالعمل في السينما حين تضيق به سبل الرزق، خاصة بعد وفاة ابيه في مدينتهم مرسيليا ومجيء امه الارملة الى باريس.
وعندما فشلت افلامه السينمائية كان عليه ان يبحث عن لقمة العيش في مكان اخر، فاتجه الى كتابة المقالات القصيرة ومراجعة الكتب واقامة المحاضرات وكثيرا ما كان يترك موضوع الندوة الاساسي ليتحدث عن عذابه الشخصي، بل انه ترك المنصة في احدى الندوات فجأة وفي ندوة اخرى انهى حديثه بصرخة عنيفة صائحا: بافشاء كل ذلك لكم اكون قد قتلت نفسي .
هكذا اعتاد الجمهور الفرنسي على ان تتحول ندوات ارتو الى سلسلة من الفضائح المدوية لكن آرتو بقي مخلصا لآرتو مقتنعا بانه يتحمل عبء خطايا الجنس البشري كله وانه يتضور جوعا لان شعوب العالم تأكل طعامه, شعور عنيف بالاضطهاد يتحول الى طاقة عدوانية لا حدود لها.
وكان التطور الاكثر حسما واهمية بالنسبة لمجرى حياة آرتو كلها هو مراسلاته الشهيرة مع جاك ريفييه رئيس ترحير مجلة نوفيل ريفيو فرانسيز الذي اعجب بقصائد آرتو وان لم ينشرها، ورغم ذلك طلب ان يتعرف عليه، ودارت بينهما مراسلات شهيرة جمعت في كتاب فيما بعد وقد اوضح آرتو احساسه بالعجز من خلالها قائلا : فكري يتخلى عني على كل صعيد، من الحقيقة البسيطة للفكرة نفسها الى الواقع الخارجي لتجسيدها,, انني في بحث دائب عن كينونتي الفكرية .
لاشك ان هذه المراسلات ساعدته اكثر على ازاحة الستار عن ذاته,, عن حالته الخاصة,, ثم سار آرتو شوطا ابعد حين انضم الى بريتون وايلوار وجماعة السرياليين، ليصبح في غضون اشهر قليلة مديرا لمكتب الابحاث السريالية في يناير 1925م ولان ارتو لايملك القدرة على الاقتناع التام، ما هي الا سنوات قليلة ويجتمع السرياليون في مقهى لو بروفييت لطرد آرتو وفيليب سوبو من الجماعة رسميا، وفي وثيقة شديدة اللهجة وصفوا آرتو بانه انسان تحركه طبيعة بهيمية .
لا يهم! لقد كان آرتو تجسيدا حيا لافكاره,, لتناقضات واقع,, لخبرات عديدة متنوعة، فأصبحت حياته وافكاره وجسده كرمز اسطوري حاول الطلبة استلهامه في مظاهرات الطلبة عام 1968م بفرنسا (بعد وفاة آرتو بعشرين عاما تقريبا) لقد عاش آرتو حياة مأساوية منذ ان تعرض في طفولته لمرض شديد خلف لديه وَهَناً عصبيا طيلة حياته ومما زاد الطين بلة انه في العشرين من عمره اصيب في شجار ما بندبة سكين في ظهره، ومنذ ذلك الحين وآرتو ضيف عزيز على عدد من المصحات العقلية، وصديق مخلص لعدد كبير من الاطباء النفسيين، لدرجة انه تعرف على الحلقات الفنية والثقافية في باريس من خلال طبيبه الدكتور تولوز كما وقع في غرام المحللة الفنسية انيس نين التي قالت عنه بانه يتقمص كل شيء يكتب عنه، وحين رأته يشير الى الشوارع المزدحمة قائلا: ستندلع الثورة وشيكا وينهار كل شيء، لابد من تدمير العالم، انه فاسد مليء بالقبح وعند ذلك علقت الطبيبة قائلة بدا لي ان آرتو يعيش في عالم خيالي وانه نفسه بحاجة الى صدمة عنيفة تشعره بحقيقة العالم .
ربما كانت تلك الصدمة عام 1937م حين اعتقل آرتو في لوهافر ثم حول الى مصحة كاترمير وحين ابلغت امه باحتجازه لاقت صعوبة كبيرة في معرفة مكانه والعثور عليه ورأته عاجزا عن التعرف عليها، عاجزا عن التواصل مع عالم لا يتحدث بلغته, كان آرتو مصابا بحالة تخشبية كاملة، وبعد جهود من الاصدقاء، تم نقله الى احدى المصحات بباريس ومن تصاريف القدر ان يطبع في هذه الفترة العصيبة كتابه الشهير المسرح وقرينه .
قضى آرتو ما يزيد عن خمس سنوات متنقلا من مصحة الى اخرى حتى وصل الى مصحة رودز ليعيش في غرفة صغيرة يدور حول نفسه ويطلق صراخه الوحشي الرهيب، وفي فترات الصحو المتقطعة كان يكتب ويكتب دون توقف.
وفي عام 1944م عاد الى مقاهي سان جرمان دي بريه واستأنف حياته مع اصدقائه القدامى، خاصة وقد تشكلت لجنة في باريس لتوفير الدعم المالي لآرتو، وممن استجاب لها بسخاء : بيكاسو ودروشامب وماسون,, وانغمس آرتو في الرسم وفي كتابة الشعر حيث كتب آرتو الغبي وهنا يرقد .
طيلة حياته لم يتوقف آرتو عن الابداع,, لم يبتعد عن المسرح بنفس الدرجة التي لم يبتعد بها عن المصحات العقلية, بلغ ذروة الشهرة لكنه لم يجد فيها خلاصا لمأساته وصاحب السرياليين ثم تجاوزهم، وجاب بلادا بعيدا بحثا عن حياة اخرى، حيث زار برلين وبلجيكا وكوبا والمكسيك وغيرها,, ودائما كان يعود مهزوم الوجدان معدما قد انهكه الادمان, ليفاجأ اصدقاؤه بان هذا الشقي مات متصلبا عند حافة السرير بالمستشفى العقلي بايفري.
يقول آرتو: لقد ناضلت لكي اجرب واعيش, لكي اجرب واذعن للاشكال كل الاشكال التي بها لون وهم الوجود الهذياني في العالم,, لم اعد راغبا ان تخدعني الاوهام, ميت انا بالنسبة للعالم,, ان لي جدا يختبر العالم ويتقيأ الحقيقة .
شريف صالح
|
|
|
|
|