| مقـالات
آيات في كتاب الله الكريم، وحادثة حدثت في غزوة بدر الكبرى، مع شواهد شرعية اخرى، جعلت علماء الإسلام يرون الصواب في سماع الموتى واستئناسهم بسلام وزيارة الأحياء لهم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، في مقارنة بين إسماع الموتى للنداء وإسماع الصم الدعاء لدين الله المُدبرين عن تأمله وتدبره,, يقول سبحانه: فإنك لا تسمع الموتى ، ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (الروم 52)، فنداء الله، والدعوة الى دينه الحق لا يصغى اليه إلا من الإيمان في قلبه وأراد الله هدايته، يقول ابن كثير في تفسيره: يقول الله تعالى: كما انك ليس في قدرتك، ان تسمع الأموات في اجداثها، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون، وهم مع ذلك مُدبرون عنك، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق، وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك الى الله تعالى، فإنه بقدرته يسمع الأموات اصوات الأحياء، إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه (تفسير القرآن العظيم 6:324).
وقد اختلف الناس فيما إذا كان الأموات، يسمعون مخاطبة وسلام الأحياء لهم، ويدركون دلالته أم لا؟!
وقد استدلت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية: إنك لا تسمع الموتى على توهيم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في روايته، مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قُليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته صلى الله عليه وسلم إيام، وتقريعه لهم، حتى قال عمر رضي الله عنه:(يا رسول الله، ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون , وتأولته أم المؤمنين رضي الله عنها، على انه قال: انهم الآن يعلمون ان ما كنت اقول لهم حق ,, وقال قتادة: أحياهم الله له، حتى سمعوا مقالته تقريعا وتوبيخا ونقمة .
يقول الشيخ الشنقيطي في اضواء البيان: اعلم ان التحقيق، الذي دلت عليه القرائن القرآنية، واستقراء القرآن الكريم، ان معنى قوله هنا: إنك لا تسمع الموتى لا يصح فيه من أقوال العلماء إلا تفسيران:
الأول: ان المعنى إنك لا تسمع الموتى,: أي لا تسمع الكفار، الذين أمات الله قلوبهم، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه، اسماع هدي وانتفاع، لأن الله كتب عليهم الشقاء فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى ابصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق، سماع اهتداء، وانتفاع، ومن الدلائل القرآنية الدالة على ما ذكرنا، أنه جل وعلا قال بعده: إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون .
فاتضح بهذه القرينة ان المعنى: انك لا تسمع الموتى: اي الكفار الذين هم اشقياء في علم الله اسماع هدى وقبول للحق، ما تسمع ذلك الاسماع، إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون، فمقابلته جل وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى، بالإسماع المثبت فيها، لمن يؤمن بآياته، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد، بالموت في الآية: موت الكفر والشقاء، لا موت مفارقة الروح للبدن.
الثاني: هو ان المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله: انك لا تسمع الموتى خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع به صاحبه، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، ولكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع، كما قال تعالى: ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل، لا يجب ان ينفى عنهم جميع أنواع السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد، الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به، واقتصر عليه العلامة، ابوالعباس ابن تيمية رحمه الله (6:426420).
وابن كثير رحمه الله أيد هذا الرأي، وأورد احاديث وحكايات استدل بها، حيث يقول: والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من اشهر ذلك ما رواه ابن عبدالبر مصححا له، عن ابن عباس مرفوعا: ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرضه في الدينا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ان الميت يسمع قرع المشيعين له، إذا انصرفوا عنه وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور ان يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد، والسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم: بأن الميت يعرف بزيارة الحيّ له ويستبشر، فروي عن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يزور قبر اخيه ويجلس عنده، الا استأنس به وردّ عليه حتى يقوم .
وروي عن أبي هريرة قال: إذا مرّ رجل بقبر يعرفه فسلم عليه، ردّ عليه السلام, أما الحكايات التي أورد فمنها:
روى ابن ابي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجحدريّ قال: رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت أليس قد متّ؟ قال: بلى,, قلت افأين أنت؟ قال انا والله في روضة من رياض الجنة، انا ونفر من اصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها، الى بكر بن عبدالله المزني، فنتلقى اخباركم، قال: قلت: أجسادكم أم ارواحم؟ قال: هيهات قد بليت الأجسام، وإنما تتلاقى الأرواح, قال: قلت: فهل تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال: نعلم بها عشية الجمعة، ويوم الجمعة كله، ويوم السبت الى طلوع الشمس، قال: قلت: فكيف ذلك دون الأيام كلها؟ قال: لفضل يوم الجمعة وعظمته.
ثم روى ابن ابي الدنيا بسنده الى حسن القصّاب قال: كنت اغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبّان، فنقف على القبور فنسلم عليهم، وندعو لهم ثم ننصرف، فقلت له ذات يوم: لو صيّرت هذا اليوم يوم الاثنين؟ قال: بلغني ان الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، ويوما قبلها ويوما بعدها، ثم قال بسنده عن الضحاك أنه قال: من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس، علم الميت بزيارته، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة.
وحدث ابن ابي الدنيا بسنده الى ابي النيّاح قال: بلغنا ان مطرّف بن عبدالله بن الشخير كان ينزل الفوطة، وإذا كان يوم الجمعة أدلج حتى يصلي الجمعة، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره، فقالوا: هذا مطرّف يأتي الجمعة، ويصلون عندكم يوم الجمعة،؟ قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الغير، قلت: والكلام لمطرف وكان مشهودا له بالزهد والورع والعبادة، كما جاء في سيرة حياته عند ابن عساكر، في تاريخ دمشق وغيره وما يقولون؟ قال: يقولون سلام عليكم.
وروى ابن الدنيا بالسند عن الفضل بن الموفق ابن فال سفيان بن عيينة قال: لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا، فكنت آتي قبره في كل يوم، ثم قصّرت عن ذلك ما شاء الله، ثم اني أتيته يوما، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت، فرأيت كأن قبر ابي قد انفرج، وكأنه قاعد في قبره، متوشح أكفانه، عليه سحنة الموتى، قال: فكأني بكيت لما رأيته، قال: يا بنيّ ما أبطأ بك عني؟ قلت: وانك لتعلم بمجيئي؟ قال: ما جئت مرة إلاّ علمتها، وقد كنت تأتيني فأسرّ بك، ويسر من حولي بدعائك, قال: فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا.
وروى عن سويد الطّفاري بالسند وكانت أمه من العابدات، وكان يقال لها راهبة، قال: لما احتضرت رفعت رأسها الى السماء وقالت: يا ذخري وذخيرتي، من عليه اعتمادي في حياتي وبعد مماتي، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني, قال: فماتت، فكنت آتيها في كل جمعة، فأدعو لها، واستغفر لها ولأهل القبور فرأيتها ذات يوم في منامي، فقلت لها: يا أمي، كيف أنت؟ قالت: اي بني، إن للموت لكربة شديدة، وانني بحمد الله لفي برزخ محمود، يفرش فيه الريحان، ونتوسد السندس والاستبرق الى يوم النشور، فقلت لها: ألك حاجة؟ قالت: نعم, قلت وما هي؟ قالت: لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا والدعاء لنا، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة، إذا اقبلت من أهلك يقال لي: يا راهبة هذا ابنك قد اقبل، فأسرّ ويسرّبذلك من حولي من الأموات، وقال بشر بن منصور: لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف الى الجبان، فيشهد الصلاة على الجنائز، فإذا امي وقف على المقابر فقال: آنس الله وقتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن سيئكم، وقبل حسناتكم, لا يزيد على هؤلاء الكلمات، قال: فأمسيت ذات ليلة وانصرفت الى اهلي، ولم آت المقابر، فأدعو كما كنت أدعو، فبينا أنا نائم، إذا بخلق قد جاؤوني، فقلت ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر، قلت، ما حاجتكم؟, قالوا: انك عودتنا منك هدية عند انصرافك الى اهلك، قلت: وما هي؟ قالوا: الدعوات التي كنت تدعو بها, قال: قلت: فإني أعود الى ذلك,, فما تركتها بعد, (تفسير القرآن العظيم 6: 324 326).
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب انه قبر، فإذا بإنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وانا لا احسب انه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي المانعة هي المنجية من عذاب القبر) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب (5:164).
وتقترن الكتابة عن سماع اهل القبور وردهم علىمن يسلّم عيهم، كما جاء في بعض الأحاديث، وما جاء من حكايات في المنامات عنهم، بالكتابة عن تعبير الرؤيا والأحلام، وبالحديث عن الروح التي هي من أمر الله، وان القول الفصل في ذلك ما جاء عن الله في كتابه الكريم، وما ورد في السنة المطهرة، وما فهمه سلفنا الصالح من علماء الأمة من توضيح لذلك.
وقد حرص علماء المسلمين على تدقيق هذه الأمور، وكتبوا في ذلك كابن تيمية رحمه الله وتوسع تلميذه ابن قيم الجوزيه في كتابه الروح في ذلك تحليلا وتوضيحا، واستشهادا بالصحيح من السنة، واقوال السلف، ولكن يظهر من أقوال العلماء رحمهم اله: ان المنامات لا تصلح كأدلة شرعية في الحكم على موضع كهذا، ولكن يستأنس بها في الوعظ والزهد وترقيق القلوب، والدلالة على قدرة الله سبحانه، ويستأنس بعض العلماء والباحثون: لدعم النصوص التي ترد من قرآن كريم، او سنة مطهرة، بما حصل للناس في حياتهم وتجاربهم، لايقاظ القلوب، وربطها بخالقها مقترنة بما رآه العلماء بين رؤيا الخير ورؤيا الشر، حتى لا يتلاعب الشيطان بابن آدم.
وفي كتاب الروح لابن قيم الجوزيه رحمه الله، جاء ذكر لبعض المصنفات في موضوع هذا الكتاب، وأهمها واكثرها نقلا عنده وعن المفسرين كتاب القبور لابن ابي الدنيا، وكذلك كتاب المنام له ايضا.
وقد أجمل تلك الكتب التي تعرضت لنفس الموضوع محقق كتاب الروح الدكتور بسام العموس فقال بعد كتابي ابن ابي الدنيا واما الكتب التي سبقت ابن قيم الجوزيه فهي:
* النفس والروح لأبي عبدالله بن معزه المجالسة لأبي بكر أحمد بن مروان المالكي البستان للقيرواني الفصل في الملل والنحل لابن حزم الاندلسي واربعة كتب باسم الروح وهي لكل من: محمد بن نصر المروزي، وأبي سعيد الخراز، وابي يعلى، وابي يعقوب الهزجوري.
* الرؤيا لمسعدة النفس والروح وشرح أمرهما لفخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى عام 660ه
* كتاب التذكرة في أحوال الموتى، وامور الآخرة، لشمس الدين محمد بن احمد الانصاري القرطبي المتوفى عام 671ه.
وقارن بين كتاب التذكرة وبين كتاب الروح، بقوله: ويختلف كتاب التذكرة عن الروح، في أن الاخير ناقش القضايا الفلسفية والتقى معه في القضايا التي تبنى على النصوص مباشرة، مثل قضية عذاب القبر، وقبض الروح وانتفاع الميت بسعي الحي، وضمة القبر، والحق يقال: ان كتاب القرطبي قد ذكر قضايا كثيرة لم يذكرها ابن القيم في الروح، لكن هذا لا يعني التقليل من شأن كتاب الروح، بل لكل شيخ طريقة (الروح 1:117 119)
وقد بيّن ابن تيمية في فتاواه، إجابات عديدة عن عودة الروح الى الجسد، عندما يسأل في قبره، وعن تعليله لمخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين القتلى في بدر المرميين في بئر، حيث ناداهم صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام من قتلهم بأسمائهم، ويقول لهم: فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا وأجاب صلى الله عليه وسلم لما سأله عدد من الصحابة: وهل يسمعون وقد أَرِمُوا؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم مني .
وقال ابن تيمية في حديث عذاب القبر: فقد صرح الحديث بإعادة الروح الى الجسد، وباختلاف اضلاعه، وهذا بيّن في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين (الفتاوى 4:289).
وقد أورد الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان: وقد ثبت في الصحيح: ان الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه، فروى مسلم في صحيحه من حديث عبدالرحمن بن شماسه المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياق الموت، فبكي طويلا، وحوّل وجهه الى الجدار، الحديث,, وفيه فإذا انا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فسنّوا علي التراب سنا، ثم اقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسم لحمها، حتى استأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي,, فدل على ان الميت، يستأنس بالحاضرين عنده ويسرّ بهم، ومعلوم ان هذا الحديث قد حكم له الرفع، لأن استئناس المقبور بوجود الأحياء عند قبره، لا مجال للرأي فيه، ومما قاله ابن القيم: ويكفي في هذا تسمية المسلّم عليهم زائرا، ولولا انهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا، فإن المزور ان لم يعلم بزيارة من زاره لم يصح ان يقال زاره، وهذا هو المعقول من الزيارة (6: 431 432).
فرج بعد شدة
حدث جبريل بن بختيشوع طبيب هارون الرشيد: انه سمع المأمون يقول: كان لي بخراسان يوم عجيب، فأولى الله لي بإحسانه جميلا، لما توجه طاهر بن الحسين الى علي بن عيسى بن ماهان، وطاهر ضعيف وعلي قويّ ولذا وقر في نفوس عسكري جميعا، ان طاهرا ذاهب، ولحق أصحابي ضيق شديد، وظهرت فيهم خلة عظيمة، ونفد ما كان معي، فلم يبق منه لا قليل ولا كثير، ووصلت الى حال كان اصلح ما فيها الهرب، فلم أدر الى اين أهرب، ولا كيف آخذ، وبقيت حائرا متفكرا,, فأنا والله كذلك، وكنت نازلا في دار أبوابها حديد ولي متشرفات اجلس فيها إذا شئت، وعدد غلماني ستة عشر غلاما، لا املك غيرهم، واذا بالقواد والجيش جميعا قد شغبوا وطلبوا ارزاقهم، ووافوا جميعا يشتمونني بكل قبيح.
فكان الفضل بن سهل وزيره بين يدي، فأمر بإغلاق الابواب، وقال لي قم فاصعد الى المجلس الذي يتشرف فيه اشفاقا عليّ من دخولهم وسرعة أخذهم إياي وتعليلا لي بالصعود,, فقلت: القوم يدخلون فيأخذوني، فلأن أكون بموضعي أصلح، فقال لي: يا سيدي اصعد فوالله ما تنزل إلا خليفة,, وكان يستعمل الحساب والنجوم.
فجعلت اهزأ به، واعجب منه، وأحسب انه إنما قال ما قال ليطمئنني، وأركنت للهرب من أبواب الدار، فلم يكن إلى ذلك سبيل لاحاطة القوم بالدار والابواب كلها، فألحّ عليّ بالصعود فصعدت وانا خائف فجلست في المجلس وانا ارى العسكر.
فلما علموا بصعودي اشتد غضبهم وشتمهم وضجيجهم، وبادروني بالوعيد والشتم، فأغلظلت على الفضل بن سهل وقلت له: أنت جاهل، غررتني ولم تدعني اعمل برأيي وليس اعجب إلا ممن قبل منك، وهو في هذا كله يحلف أنني لا أنزل الا خليفة، مع ما أشاهده والحال يزيد اشدّ عليّ مما اقاسيه من الجند، ثم وضع القوم النار في شوك جمعوه، وأدنوه من الدار، ونقبوا في سورها عدة ثقوب، وثلموا فيه قطعة، فذهبت نفسي خوفا وجزعا، وعلمت اني بين ان احترق، وبين ان يصلوا اليّ فيقتلوني، فهممت بأن القي نفسي اليهم وقدّرت انهم إذا رأوني استحيوا مني واقصروا.
وجعل الفضل يقبل يدي ورجلي ويناشدني ان لا أفعل ويحلف اني لا انزل الا خليفة، وفي يده الاسطرلاب ينظر فيه، في الوقت بعد الوقت,, فلما اشتد عليّ الأمر واستحكم اليأس قال لي: قد والله اتاك الفرج ارى شيئا في الصحراء قد اقبل، ومعه فرجنا، فازددت من قوله غيظا، وامرت غلماني بتأمل الصحراء، فلم ار، ولم يروا شيئا.
وجد القوم في الهدم والحريق، حتى هممت ان ارمي بالفضل اليهم لما داخلني من الخوف,, فقال الغلمان: انا نرى في الصحراء شيئا يلوح، فنظرت فاذا شبح وجعل يزيد تبيانا الى ان تبينوا رجلا على بغله ثم قرب فاذا هو يلوح وقرب مني العسكر وقويت له قلوبنا ورأى الجند ذلك فتوقفوا وخالطهم,, فاذا هو يقول البشرى هذا رأس علي بن عيسى بن ماهان معي في المخلاة، فلما رأوا ذلك امسكوا عنا، وانقلبوا بالدعاء والسرور بالظفر والفتح,, فقال له الفضل: ائذن لي في إدخال بعضعهم فأذنت له فشرط عليهم الا يدخل الا من يريد فأجابوا الى ذلك وسمى قوما من القوم فدخلوا.
فكان اول من دخل عليّ عبدالله الخزامي، فقبّل يدي وسلم عليّ بالخلافة، ثم ادخل القواد واحدا واحدا ففعلوا مثله، فاطفأ الله سبحانه الفتنة ووهب السلامة، وقلدني الخلافة فظفرت من أموال بن ماهان وما في عسكره بما أصلحنا به امور جندنا (الفرج بعد الشدة 2: 351 354).
|
|
|
|
|