أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 20th April,2000العدد:10066الطبعة الأولىالخميس 15 ,محرم 1421

الثقافية

نهار جديد
الشعر/ هذا الغامض الخفي
عبدالله سعد اللحيدان
ّوأنا أجلس بين يدي الشعر، كانت الأفكار والصور والخواطر والايقاعات غامضة وخفية، وتأتي من أمكنة غامضة خفية، وتعود مثلما أتت.
ولكن، مع الوقت الطويل والصبر والسهر، ومواصلة: الليل بالنهار، الأيام بالأيام بالشهور بالسنوات، بدأت أقرأ ما يدور امامي وأستمتع به، هل قلتُ: استمتع به؟!، نعم، من الأشياء التي أدركتها مؤخراً أن الاستمتاع كان هو حافزي الأكبر لهذا النضال الطويل، وأدركت أنه هو ما سيجعلني أواصل إلى النهاية، نعم، أدركت أن اللذة التي تكتنف رحلة الروح والجسد معه وبين أشيائه وما يدور بين يديه وحوله، هذه اللذة، كانت زادي في هذا المقام الطويل الشاق، وأدركت بناء على ذلك لماذا لا يستطيع الكثيرون الصبر والضغط على النفس وكبح جماح رغباتها وأهوائها في سبيله,, وإلغاء كثيرٍ من الحاجات والمتطلبات الحياتيّة والضروريّة.
هل اعتراني الغموض تأثراً بأجوائه الساحرة، وهل أجيد التعبير عما لاقيته في سبيله وما ألاقيه وما هي اللغة المناسبة لهذا التعبير,, وكيف ؟، لا أدري، ولكنه مرّة أشار إليّ (أي موضوع وأي لغة وأية أداة تصلح مادة لي مادمت تستخدمها كمعادل لإحساس معين ترغب في خلقه)*
مرّة: خفتُ أن يعرفني كإنسان ثم تملكني الاطمئنان بعد أن وعيتُ قوله (لا علاقة لأسلوبك وعقلك الخالق بشخصيتك وسيرتك إطلاقا، ولا يُفيد أحداً التعرف على شخصيتك وسيرتك في فهم عملك الفني/ فلا علاقة بين عقلك الخالق وتجاربك الفنية من جهة وبين حياتك الخاصة والعامة من جهة أخرى، وعلى قدر نضوج عقلك الخالق وتمكّنك من فنك تكون قيمة عملك الفني/ وأنا الذي أحدد نفسي وأعطيها كيانها,, لا المجتمع ولا الشخصية/ ما يحددني ويعطيني كياني هو أنا,, أي وعي قائلي بالتقاليد الادبية والمامه بالاعمال الادبية التي سبقته وعاصرته/ وكلما زاد انفصال قائلي عن ذاتيته، دل ذلك على نضوج عقله الخالق وعلى قدرته الفنية عندما يكون التغيير الذي يطرأ على تجاربه ومشاعره أعظم وأتم/ التغيير من دخولها إلى عقله الى خروجها منه شكلا آخر وشيئا جديدا/ وقدرته الفنية هي التي تمكّنه من أن يفصل نفسه عني ويكتشف بذلك معناي ويُحدد قيمتي، فإذا لم توجد لديه القدرة الفنية اصبح خلقه تعبيرا عن الذات، فيجب عليه حمايتي من ذاتيته).
من ضمن المفاهيم غير الثابتة التي استفدتها من مجلسه الغاصّ بالدروس الغامضة (أنه ليس صورة للحياة، فلو كان صورة للحياة لاستغنينا بالحياة التي أمامنا عنه/ واستغنينا بالاصل عن الصورة، فقد يُصور الحياة ولكنه ليس صورة عنها لأن ما يزودنا به يختلف عما تزودنا به الحياة) يومها أدركت ان (قيمته ليست فيما يزودنا به من خبرات أو معلومات بل في الاثر الفني الذي يُحدثه في نفوسنا كما هو كاملا كما خلقه الفنان، وأن الحياة تصبح شيئا مختلفا فيه بعد ان أنشأه الفنان إنشاء جديدا، فالاحساس الذي يزودنا به يختلف عن الاحساس الذي تزودنا به الحياة).
مع أن حضوره كان مهيبا، بدا لي أحيانا أكبر مما هو عليه في الحقيقة، وبشكل مبالغ فيه، أو أصغر مما هو عليه في الحقيقة، وبشكل مبالغ فيه أيضا، إلا انني أدركتُ وجود أسرار وراء هذا الحضور البهي القوي الذي لا يُعادله حضوري ولا حضور الآخرين، حتى ولا حضور أشباهه ومماثليه ممن يحاولون موازاته أو التقاطع معه، وتساءلت: على أي شيء يقوم هذا الحضور الغامض الغريب,, الساحر الشائق,, الآسر, الحضور الغياب,, في أعلى تجلياته وجدلياته.
أول الخيوط التي توهمت أنني استطعتُ الامساك بها من بكرة اسرار هذا الحضور: انه (لا يقوم على فكرة أو معنى أو صورة أو عدة ألفاظ او خبرة أو عدّة خبرات,, بل السبيل في كيانه هو اثارة احساس معين لا يتأتى إلا عن طريق شكل معيّن تنتظم فيه كل هذه العناصر، فلو اختل هذا الشكل انفرط العقد وانعدم بذلك الاثر الفني,, لأن كل هذه العناصر تعود إلى سابق صلتها بالحياة، وانه يستمد كيانه من العلاقات بين أجزائه المختلفة، وان هذا من الاسباب التي جعلت من حاولوا قراءته لا يؤمنون بتلخيصه ليفهموا معناه,, لأنهم بذلك يُحيلونه من بناء يستمد كيانه من العلاقات بين أجزائه المختلفة إلى مجرد رمز يستمد معناه من مدلول خارج نطاقه,, وبذلك يخرج من محيط الفن إلى محيط الحياة) وأنه (لا قيمة لأي شيء في ذاته منفرداً داخله بل يكتسب أهميته من الوظيفة التي يؤديها ضمن زملائه بين العناصر الأخرى/ ومن الغرض الذي يسعى صاحبه إلى تحقيقه وهو على الدوام: اثارة احساس معين في نفس القارئ) وأن معناه كُليّ و(لا يستمد معناه من جزء من أجزائه أو عنصر من عناصره، فعناصره الوظيفية يتظافر بعضها مع بعض في خلق الاحساس الذي يريد نقله الى القارئ) وتساءلت: كيف لو كان مباشراً؟، والمباشرة ألا تؤثر على وظيفته ومعناه ووحدته أيضاً؟!
من كتاب ما هو الأدب لرشاد رشدي بتصرّف .




أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved