| الثقافية
محمد الحرز
ينتمي الأستاذ الكاتب عبدالكريم الجهيمان الى جيل التأسيس,, الى جيل البدايات وغالبا ما تكون البدايات صعبة، وصعوبتها تكمن في تثبيت بنية ثقافية مترسخة بحيث تشكل انعطافة مهمة ثقافياً وحضارياً للجيل اللاحق، وتجربة تدفع الوعي الثقافي نحو التشكل والانفتاح، ومشروطية ذلك، تظل مرهونة بالسياق الاجتماعي الذي يحضنها ويخصّبها، وفق الظرف المعيشي الذي يتسم به ذلك السياق، ربما بهذه الوضعية، انطلق أبو سهيل في مهمته كمثقف طليعي، وبوصفه واحدا من الذين سعوا الى المشاركة الفعلية في التأسيس، ليس على المستوى الثقافي فحسب، وانما يمتد ذلك الى الدور التربوي والتعليمي باعتباره قضى شطراً من حياته معلما ومربيا في فترة التأسيس، وقد يبدو جليا للعيان، ان هذه الفترة هي من الصعوبة بمكان، بحيث يصعب على المرء ان يتأسس ثقافيا كوعي منفتح على المعرفة بشكل مستمر، فضلا عن ذلك، ان تكون له القدرة والقابلية في العطاء الثقافي للآخرين بدون ان يكون هناك حدٌّ او توقف لهذا العطاء المثمر.
ولو تأملت قليلا وتساءلت: كيف استطاعت تلك الفترة التأسيسية ان تعطينا مجموعة من المثقفين المنتجين من بينهم الأستاذ عبدالكريم بالرغم من العوائق التي تحدُّ من انتشار المعلومة، علاوة على ذلك، الانغلاق الذي يطال جميع نواحي الحياة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية,, في ظل هذه الظروف العسيرة التي واكبت توحيد المملكة على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله!؟ وكيف تجاوزت جميع المآزق الحياتية والاجتماعية، ثم مارست دورها في انتاج بنية ثقافية معرفية متحركة لم يشهد التاريخ القريب، لهم، بالتوقف عن انتاج هذا العطاء او التكاسل عن النهوض بهذا الوعي الثقافي؟,, إذن هذه الكيفية ينبغي ان تتموضع داخل وعينا الثقافي، ومن الباب الأكثر مأزقية، ذاك الذي يفضي الى الفعل التجادلي الخلاّق بيننا وبين الوعي الثقافي للنخبة المؤسِسة في بلادنا، وهذا الجانب أشبه ما يكون مفقودا في الساحة، قد تكون هناك حالات فردية وهنا يحضرني حسين بافقيه في تعالقاته مع الذاكرة الثقافية غير انها تبقى بمنأى عن التنظيم والتوازن والانسجام الذي يتصف به الفعل الثقافي الحواري، المبني على الوعي المؤسساتي داخل المشهد, إن الوعي الذي يتطلبه مثل هذا الفعل الثقافي، لا ينطلق من ذهنية ثقافية تطمئن الى ادواتها وتركن الى قناعاتها ومسلماتها المعرفية بأيِّ صورة كانت,, أو على أي مستوى كان, وتشكل مفرداته من خلال خبرة فردية تاريخية وصفية، لانحيازها الى فضاء معرفي يرتكز على التأمل والتحليل، ان المأزق الحقيقي، هو ان يظل هذا الوعي حبيس النظرة الاحتفائية ليس بالمفهوم الانساني الذي هو ضرورة تستلزمها القيمة الإنسانية ذاتها في العلاقات، وانما بالمفهوم الثقافي الذي يفوّت الفرصة على الوعي بالانفلات من أسر الانحراف المعرفي للتاريخ والثقافة والواقع، نحن بحاجة اكثر من أي وقت مضى الى اعادة صياغة الذاكرة,, صياغة نماذجنا الثقافية في تاريخنا الثقافي القريب، انها نماذج تستدعي التأصيل بمعنى: ان الكشف عن المكونات الأولية للوعي لدى جيل التأسيس، هو في العمق منه اولاً كشفٌ عن بنية التصور الثقافي في اذهانهم وطريقة تشكل جملة المفاهيم في فضاء هذا التصور، ثانيا: كشف عن مختلف الافكار والممارسات والأنساق الثقافية في تلك الحقبة من تاريخنا المعاصر، وليس من شك فإن مثل هذا المنظور يفسح المجال بدرجة كبيرة للأخذ بالمعطيات الموضوعية التي تفضي لمجمل السمات المختلفة للثقافة ذاتها، وتعطي في مستوى آخر، امكانية فعل حواري مفتوح، بحيث يبدو وكأننا لا ننفك نمنح انفسنا حركة تصاعدية باتجاه تكوين منظومة من القيم الثقافية المعرفية والتي ستكون لها صلة وثيقة بالجذور,, بالتاريخ الإسلامي بترسباته في بلادنا، وذلك بصورة تؤول الى الكم والنوع، وهذا الامر يُعطي الفكرة مشروعيتها وأهميتها على الصعيدين: الفكري والواقعي، ويعطي تجسيدها بُعداً ارتكازيا قائما على الهوية والذات، ويعمل ايضا كوظيفة ثقافية على تمتين العلاقة بين الفرد والثقافة ورموزها او نماذجها الانسانية التي تُشكل كما اسلفنا انعطافة لا يمكن تجاوزها او القفز عليها حينما نقارب هذه العلاقة, هنا نصل الى السؤال التالي: كيف نوسّع من المفهوم الذي يعطي هذه العلاقة شكلا مختلفا ومغايرا في الذهن اولاً ثم في الواقع كوضع تراتبي ثانيا !؟ يبدو اولاً ان اللغة الثقافية المتداولة تلعب دورا كبيرا في تشكيل تصوراتنا عن مجمل الأفكار الثقافية والاجتماعية، وبالتأكيد يأتي على رأسها المثقف ومفرداته التي تتبعثر داخل السياق من هنا,, وهناك، يلزمنا بالتالي انزياح على الصعيد اللغوي، يثمر عنه ترسيخ هذه النماذج الثقافية من ذاكرتنا في ذهنية الفرد والمجتمع لا بوصفها نماذج يتم التعامل معها كذوات استقطابية للثقافة فقط، او كذوات فرضت عليها الثقافة والمعرفة نمطية محددة في الاسلوب والمعيشة والرؤية، وذلك ضمن متغيرات اجتماعية متعارف عليها، بمعنى: اتخاذ موقعية المستقبِل لا المرسل للثقافة فقط، وانما بوصفها ذوات ثقافية اتخذت موقعية التأسيس، ولا يُخفى ما لهذه الموقعية من اهمية داخل الثقافة، وينبغي ان تصاغ هذه الموقعية في الذهن اللغوي الثقافي تحت مفاهيم مغايرة ومتحرفة عن موقعية المفاهيم السابقة التي تخص المثقف وتتعلق بمفاهيمه وقيمه، وهذا اولا، أما ثانيا: يستتبع ذلك التغير في الذهن اللغوي الثقافي، تغيرات بالضرورة وذلك في مجمل العلاقات الثقافية والاجتماعية وفي بنيتها المتشابكة حدّ التماهي، هذه المتغيرات تبدأ عند مزاولة الوعي لوظيفته الإزاحية على مستوى المفهوم والبيئة، وهذا الامر ينبغي ان ينهض به الفرد المثقف من داخل وخارج المؤسسة الثقافية، ولسنا هنا في موقعية تسمح بطرح مقترحاتها، وفرض منظورها النظري، وانما تجليات هذه المآزق واضحة المعالم للعيان، ولا تحتاج الى ادنى جهد في تلمسها او الكشف والتعرف على آثارها سواء على مستوى البنية او المفهوم اللغوي داخل الثقافة نفسها.
** ولعل الأستاذ عبدالكريم الجهيمان بوصفه واحدا من الجيل المؤسس,, واحدا من المساهمين في التربية والتعليم والثقافة، لا يتموضع في وعينا الحالي باعتباره كذلك,, باعتباره يمثل تمفصلاً في ثقافتنا المحلية، فنحن جيل لم يخضع في مراحله التعليمية النظامية المدرسية لمثل هذا التمفصل الثقافي، او الى مثل هذه المرجعية الثقافية المهمة، (ونحن - هنا - نشير الى الوعي الجمعي الذي يشكل الذاكرة، ويعطيها تصورا معينا في الذهن، ولا نشير الى وعي المثقف الفردي).
هنا ينبغي ان نطرح السؤال التالي: من المسؤول!؟ هل هي الثقافة!؟ أم انه المثقف!؟ ام انها تقع على عاتق المؤسسة التعليمية والثقافية - الأدبية!؟ يبدو لي انها مسألة يجب ان تطال الجميع، لأجل خلق حالة واعية داخل المشهد.
** ان الموقعية التي يتخذها الاستاذ عبدالكريم في ثقافتنا المحلية، تكمن أهميتها في جانب كبير منها في جهده الرائع والرائد الذي قام به، وهو جهد قلَّ نظيره، يتمثل في عمليه الأمثال الشعبية والأساطير الشعبية في قلب الجزيرة العربية وهما عملان لهما فرادتهما وتميزهما، ليس لكونهما مرجعا تراثيا ثقافيا، وانما يشكلان مرجعا للفهم والتأويل,, مرجعا لتحليل البنية اللاشعورية المترسبة في الجذور والممتدة الى السطح من الثقافة، وهما أداتان من أهم ادوات الوعي النقدي الحديث لأيّ ثقافة ولأي مجتمع كان، ويبدو لي ان هذا المرجع الضخم يفتح الطريق لنمو الوعي النقدي التحليلي في ساحتنا، وغالبا ما يُعطي ذلك نتائجه الفعلية بشكل سريع ومتطور، يكفي ان نطل برؤوسنا على حركية الفكر الحديث حتى نتأكد من هذه الحقيقة, ان قراءة الواقع الثقافي القريب والبعيد، لا يضفي عليها قدراً من الأهمية إلا بإدماج مثل هذه الاعمال كعنصر مؤسس داخل السياق العام لوعينا التعليمي والثقافي والأدبي، ودون ذلك يبقى الجيل في حالة انفصال شديد عن ثقافته القريبة فضلا عن عمقه الثقافي المتشكل أساسا ضمن تركيبته النفسية والجسدية، اذ تظل بذلك الشروط التي تخص نمو الوعي وشموليته مرهونة بهذا الجانب وبشكل كبير، فهل يمكن من هذه الاحتفائية نبدأ التفكير جدِّياً بالمسألة,,!!؟.
|
|
|
|
|