| الثقافية
ناصر محمد الحميدي
عاش أبو سهيل طفولته المبكرة متنقلاً بين والده وأعمامه في غسلة وبين والدته وأخواله في الوقف، وكانت القريتان متجاورتين لا يفصل بينهما إلا واد كبير يسقي الكثير من مزارع القريتين، يسمى العنبري.
** وكانت القرائن تعتمد في معيشتها على الفلاحة وتربية المواشي، وهناك قلة منهم يعتمدون في معيشتهم على نقل الأحمال من قرية إلى قرية ومن مكان إلى مكان آخر ويسمعون الجماميل ، وكان جده لوالده من كبار الفلاحين في غسلة، وعاش والده فترة من الزمن مع جده في الفلاحة ثم انفصل عنه، وصار يعمل في الجمالة.
كان عمره عندما تزوجت أمه زواجها الثاني ثلاث سنوات أو أربع وهي ابنة لاحد الفلاحين تطعمه وتسقيه ثم تتركه في المنزل وحده وتذهب مع رفيقاتها لجمع الحشائش من الصحراء أيام الربيع من أجل تلك الحيوانات التي تخرج الماء من أجل تلك الحيوانات التي تخرج الماء من الآبار لري المزروعات.
** روى لي أبو سهيل ان حياته كانت في طفولته كلها حركة وحرية وانطلاق، بحيث يستيقظ مع طلوع الفجر ولا يهدأ من الحركة إلا في ظلام الليل كما كان رفاقه لداته مثله يمارسون ألعابهم ولكل طبقة منهم ألعابهم الخاصة التي تتناسب مع أعمارهم، هناك ألعاب الليل وألعاب النهار، وللبنات العابهن الخاصة، وكانوا يمارسون هواية الصيد في النخيل حيث يغزون الطيور في أعشاشها، ولديهم الطيور المهاجرة التي يصطادونها بواسطة الأفخاخ، والصيد في الصحراء حيث الجرابيع والضباب، والأرانب وغير ذلك؟!
** وهكذا عندما فتحت عيناه على الدنيا وكان عمره حوالي أربع سنوات، كانت أمه قد انفصلت عن أبيه بالطلاق وكان يعيش ووالدته عند خاله ثم جاء لأمه خاطب من قرية مجاورة لقريتهم فتزوجته وذهبت إلى تلك القرية المجاورة، وتركته في حضانة جدته.
وكانت أمه تزوره بين وقت وآخر، فإذا حضرت اهتمت بأمره وبأمر نظافته، ثم تركته عند جدته وذهبت إلى زوجها الجديد، وهنا بدأت بوادر جديدة في نفسه,, انه يغار عليها ويغار أيضاً على والده الذي اختطفت منه زوجته، وصارت عشيرة لزوج آخر، حرمه من عطفها وحنانها أكثر الأيام والساعات، لقد كانت هذه الأفكار تتفاعل في نفسه الصغيرة، فتولد كرها وتولد حقداً لهذا الوضع الشاذ، حسب ما تصور له نفسه المحدودة المدارك آنذاك.
وتطورت هذه النزعة ابان طفولته فهو يريد أن ينتقم من الاثنين معاً والدته وزوجها الجديد!! ولأنه لا يعرف زوجها وهو بعيد عن متناول يده الصغيرة بقيت والدته التي يراها عندما تأتي ويراها عندما تذهب إلى القرية المجاورة، ويعرف طريقها إلى تلك القرية! كان يملأ حجره بالحجارة، فإذا خرجت من القرية، واتجهت إلى القرية الثانية، وقف في مكان مرتفع، ثم صار يرمي هذه الهاجرة بالحجارة، وكان بعض تلك الحجارة كما يقول أبو سهيل يقع عند يمينها، وبعضها يقع عن شمالها، وبعضها يقصر عنها، وهي ماضية في طريقها لا تسخط ولا تتأفف، ولا تلتفت!! فإذا زارته مرة ثانية تجاهلت ما حدث وقابلته وكأن شيئاً لم يكن!!
** وتكرر عمله هذا حتى كبر قليلاً، وتوفي زوجها الجديد، فاحتضنته من جديد، وكانت هي السبب في تعلمه غفر الله لها وجزاها بما أحسنت، وغفر الله لأبي سهيل وعفا عنه فيما أساء، إنه جواد كريم غفور رحيم.
بالرغم من تلك الظروف وهذه النزعة البريئة فقد عاش أبو سهيل حرية نادرة المثال حيث لا حدود ولا قيود في عهد الطفولة وكان يعيش بين هاتين القريتين، فإذا ضاق باحداهما ذهب إلى الأخرى، وكان يعيش كذلك بين بيتين، اذا ضاق بواحد منهما ذهب إلى الآخر، وهما بيت خاله في قرية الوقف وبيت والدته في قرية غسلة.
** في هذا الجو الريفي البسيط الطليق عاش طفولته، ولم يحس في يوم من الأيام انه مكروه من أحد البيتين، بل كان يجد حباً وترحيباً وعطفاً قل ان يوجد عند غيره من الأطفال.
كان الأطفال يملؤون أوقاتهم بالحركة وبالمنافسة في كثير من الألعاب التي منها ما يعتمد على الذكاء، ومنها ما يعتمد على القوة البدنية، ومنها ما يعتمد على سرعة الحركة عندما يكون السباق وشدة الحذر عندما تتأزم المواقف,,؟!
في تلك العهود كانت لديهم أنواع من الرياضات المتعددة التي منها ما كان يمارس في الشتاء، ومنها ما يمارس في الصيف، وفي هذه الأجواء لم يكونوا بحاجة إلى ألعاب صنعت واستوردت من الخارج، فلديهم الاكتفاء الذاتي من أدوات هذه الألعاب، فهم يلعبون بالحجارة وبكعاب الأغنام، وغصون الشجر، ويلعبون أيضاً برمال الصحراء.
** كان أبو سهيل ولداته يحرصون في طفولتهم على ترتيب أدوات هذه الألعاب فإذا مضى وقت واحد، وبدأت الأخرى، فإنهم يحتفظون بأدوات اللعب التي مضى أوانها، ويجعلونها في مكان خاص بها حتى يأتي دورها في مواسمها المعتادة, وإذا ضاع شيء منها، أو انكسر عوضوه حالاً بما يتوفر لديهم من هذه الادوات التي في متناول أيديهم.
أما كيفية تعلمهم القراءة والكتابة فقد كان ذلك فوق التراب، وما كانوا يخافون من التراب، ولا يترفعون عنه في كثير من الأحيان، وهذا هو الشيء الطبيعي، أن يلتصق الإنسان بأمه الأرض، وأن يباشرها بجسده أو بعض جسده، فما تلك الفرش الفاخرة، وما تلك الأثواب الزاهية إلا أشياء صناعية؟!
** أما معدات الدراسة، فلا مكتبات، ولا كتب، ولا أقلام، ولا أوراق، ولهذا لقد كانوا يصنعون من بيئتهم كل ما يحتاجون إليه بمعنى,, أن لديهم اكتفاء ذاتي!! يقول الأستاذ عبدالكريم: كنا نتعلم القراءة والكتابة على رمالنا النقية، وكنا نصنع ألواحاً عريضة تنوب عن الأوراق، وكنا نطلي هذه الألواح بمادة جيرية نسميها الصالوخ أي القطع التي تنسلخ من الجبل، فنطلي بها الألواح ونكتب عليها، فاذا حفظنا ما كتب عليها، محوناه مع البقية الجيرية التي طلينا بها اللوح، ثم نعيد الطلاء مرة ثانية، ونعيد عليه الكتابة، وكنا نصنع الحبر بأنفسنا، فنأخذ من المقرصة، ما يعلق بها من سواد النار ثم نضيف إلى ذلك السنو قليلاً من الصمغ، ثم نعجنه ونطبخه، حتى ينعقد,.
ثم نعمل منه أقراصاً نجففها، ثم نستعملها في الدواة، والدواة زجاجة ترد إلينا من الخارج، وقد يكون فيها دواء وقد يكون فيها أية مادة أخرى أ,ه.
** أما الأقلام فتتم صناعتها من قصبات الأشجار حيث يتم بريها ثم تشق من وسطها ثم يستعملونها للكتابة، وهكذا يكتبون ومن هذه الأرضية البسيطة الأساس في مقاييس العصر انطلق أبو سهيل ليقيم الدنيا ولا يقعدها كأبرز كاتب صحفي فما بعد وألمع ما يكون المثقف المتفاعل والمواطن الواعي لدوره في هذه الحياة.
** وقد خرج أبو سهيل من عهد الطفولة,, بحمد الله بلا مشكلات ولا عقد نفسية ولا عاهات بدنية، ولا أحقاد اجتماعية، وهذا من فضل الله ورحمته التي يخص بها عباده، وهو حري بها ولا شك.
|
|
|
|
|