| الثقافية
عبدالله محمد حسين العبدالمحسن
أدبنا الشعبي لم يكن يوما في دائرة الضوء، والى وقت قريب ظل الاهتمام به جمعا ودراسة من قِبل الادباء والعلماء العرب محدودا، ومازال معظمه معرضا لإهمال خطير، يكاد يكون متعمدا، إذا ما اخذنا بالحسبان الاصوات التي تطالب بالتخلص منه او تجاهله وتركه لآفة النسيان، من بين هذه الاصوات ما اطلقه الدكتور بدوي طبانة على صفحات مجلة اليمامة العدد 1495 سنة 1418ه حيث قال:
من الخطر على اللغة ان نشيد بالادب الشعبي,, فالأدب الشعبي الحالي لدينا بمفهومه الشائع خطر على ثقافتنا ولغتنا العربية,, ويضيف منتقدا إنشاء قسم الادب الشعبي في جامعة القاهرة حدد دوره ساخرا لكي يحدثنا مؤسسه د, عبدالحميد يونس عن ابي زيد الهلالي وأيوب المصري ومما قاله في هذا الصدد: والمصيبة ان الازهر ادخل الادب الشعبي في كلية اللغة العربية، لذلك ينبغي التصدي لهذه المسائل .
ولمثل هذا الطرح المتشدد اشار الدكتور طه حسين في كتابه الحياة الادبية في جزيرة العرب منتقدا ومؤكدا قيمة هذا الادب لسوء الحظ لا يعنى العلماء في الشرق العربي عناية ما، لأن لغته بعيدة عن القرآن,, وهذا الادب الشعبي وان فسدت لغته حي قوي له قيمته الممتازة، من حيث انه مرآة صالحة لحياة منتجيه .
وبالإمكان ان نتلمس جذور هذا العداء بالرجوع الى المفهوم الذي حددته معاجمنا للاسطورة، حيث انها تعني الاباطيل والخرافات المفتقرة الى مصداقية، وهي عند الكثير تعني الحكاية ومنها أساطير الاولين اي الاحاديث الباطلة العارية من الصدق، وقلما تخرج من دائرة هذا المفهوم، الذي ترتب عليه ازدراء الاسطورة، والذي ترتب عليه ايضا ضياع الجزء الاكبر من هذا الموروث، فليس من المقبول مطلقا ان ما بحوزتنا من اساطير هذا النزر اليسير هو ما انتجه اجدادنا الأولون, إذا ما قارناه بموروث الشعوب بما فيها الشعوب المتخلفة، مثل شعوب استراليا والهنود الحمر تلك الشعوب التي لم تمتلك ارثا حضاريا كالذي امتلكه العرب، نجد موروث تلك الشعوب يفوق بكثير ما هو متناثر في مصنفات العرب، وما هو مبعثر في ذاكرة الشعوب العربية.
مما لاشك فيه ان ما بحوزتنا وما هو عالق بذاكرتنا لا يمثل ما انتجته عقلية الامة العربية التي مرت بظروف تاريخية مختلفة كالحروب والهجرات والكوارث والاحتلال والامة التي امتلكت الصلات القوية بمراكز الحضارات الإنسانية المبكرة وبهذا الصدد يقول الدكتور علي جواد: ان العرب غطوا بأساطيرهم جميع الظواهر حتى الكواكب .
وجاء تقديم العلوم الإنسانية الادبية والانثروبولوجية والتاريخية ليضع حدا لتأثير هذا المفهوم الساذج للاساطير، وبدأت البوادر لتصحيح هذا الموقف السلبي من الاساطير وحاول ان يقوّم المفهوم الساذج بقوله: على الذين ذهب بهم الفهم الى هذا المعنى معنى الاباطيل ان يرجعوا الى ما تدل عليه الاساطير فللأساطير معانٍ لا تمت الى الاباطيل بصلة، ويضيف، ومن الواضح ان مما سطر الاولون حقائق تاريخية ذكرها القرآن الكريم حتى الاباطيل والاراجيف ترسم لنا انماط التفكير والمعتقدات السائدة التي تشكل جانبا مهما في الدراسات التاريخية.
مع هذا الفهم المتقدم يلتقي استاذنا المحتفى به عبدالكريم الجهيمان الذي اكد على قيمة هذا الموروث اسطورة وحكاية ومثلا من خلال موقفه المدافع ومن خلال نشاطه المتمثل في جمع التراث الشعبي وتدوينه بقوله: اما الاساطير والامثال فإنها في نظري ادق من التاريخ المكتوب في رسم الحياة الاجتماعية، فلكي تتعرف على تاريخ بلد ما ولكي تكون عنه صورة وافية فلن تجد ادق وأصدق من الامثال التي هي زبدة تجارب ذلك المجتمع ولا اقرب الى الصدق من الاساطير التي هي فضاء خياله الرحب وأفق تطلعاته ، هذه الرؤية المتقدمة تلتقي مع ما يطرحه علماء الانثروبولوجي والميثولوجي، امثل اشتراوس الذي يقول في كتابه الاسطورة والمعنى : ان الموروث هو على الاقل حالة وتاريخ دون ملفات ووثائق مكتوبة .
تشكل هذه الرؤية الثاقبة والمسؤولة التي كثيرا ما صرح بها الاستاذ عبدالكريم احد الدوافع القوية التي حركته نحو هذا الموروث، ودافع آخر لا يقل اهمية هو ما يحمله هذا الموروث من قيم إنسانية في ثناياه الى جانب المتعة والتسلية، كذلك حرصه على تراث الاجداد والخوف عليه من الضياع كل ذلك حمله على المبادرة في ريادة تنتزع الاعجاب والتقدير لجمع هذا الموروث اذ بلغت عشرة مجلدات من الامثال وخمسة مجلدات من القصص انه جهد هيئة اذا ما اخذنا في الحسبان الطرق التي تم بها الجمع، يقول الاستاذ عبدالكريم: كان هدفي من جمع التراث الشعبي وتوثيقه هو خوفي من ضياع هذه الثروة العظيمة التي خلفها لنا الاجداد والتي لو اهملت لذهبت ادراج الرياح ، الضياع هو الحقيقة الحتمية التي يواجهها المورث، فآفة النسيان تتربص به، وتباعد الازمان لا يقاوم إلا بالتدوين.
ان الضياع ان لم يقض على الحكاية فإنه يفرغها من مضمونها، لذا كان من الضروري جدا ان تكتب الحكاية كي تنقذ من الموت المحتم، كما ان تدوينها يساعدها على اعادة الانتشار, مما ذكر الاستاذ عبدالكريم ان احد الموزعين اخبره ان الطلب على مجموعته من خارج الوطن كثير، وخير شاهد على انتشارها ترجمتها الى اللغة الروسية التي صدرت مؤخرا بدعم من الدكتور يحيى ساعاتي والتي صدرت عن مركز البحوث الاستراتيجية والسياسية في موسكو قام بنقلها الدكتور شاه رستم موساروف المهتم بالفولكلور العربي.
ومن المخاطر المحدقة بالادب الشعبي الشفوي الذي لم يدون الهجمة الضارية من وسائل الترفيه واللهو العصرية التي نحَّت بعيدا القصص الذي كان يعمر مجالس السمر، تلك المجالس المحتشدة بالحكايات والاشعار والامثال والاحجيات هي النبع الذي ارتوت منه ذاكرة الاستاذ عبدالكريم ونمّى رصيده من هذا الموروث.
راح يجمع كل ما يرده من حكاية، خرافة، اسطورة، قصص شعرية ألغاز وحكم، وكانت مصادره، كما يقول في اغلبها سماعية وليست مكتوبة، ويؤكد انه لم يجد منها شيئا مكتوبا، كلها من كبار السن ذكورا وإناثا: عندما يلقى بعضهم بعضا في سواد الليل الذي لا تعكره الاضواء، وإنما يسمح للخيال ان يحلق في جميع الاجواء .
صاغ تلك الكلمات بأسلوب يتراوح بين الايجاز المحكم والتفاصيل الفضفاضة، فالتفاصيل في الحكايات الشعبية مهمة لأنها الشبكة التي تصطاد حقائق الواقع ويعزو فلاديمبر بروب فقدان الحكاية لبعض تفاصيلها: الى عامل النسيان من جهة والى محاولة اتفاق الحكاية مع البيئة الحاضرة , اعتمد عبدالكريم الجهيمان لغة فصيحة سهلة بعيدة عن التكلف، هي اللغة المثلى لتقديم مثل هذا الموروث، لأنها تكون مقروءة من قبل اوسع قاعدة من الناس، كما كانت محكية من قِبل الناس، تتخللها تعابير ساخرة وتهكمية تضفي خفة ورشاقة على تلك الحكايات، كما اعتمد لغة مهذبة في الحكايات التي تتعرض الى مواقف سوقية او تصور لقاء عاطفيا.
اما عن ذلك التفاوت في حجم الحكاية فيرجعه عبدالكريم الى الجو الذي تدور فيه، فهو على حد تعبيره الذي يجعلها طويلة او قصيرة، وانه يتوسع في بعض المواقف على شرط ألا يخرج هذا التمديد عن فحوى القصة، كما انه اذا وجد قصة ناقصة فإنه يتم حلقاتها المفقودة مع ما يتناسب مع فحواها، اما الاشعار والامثال التي يطعم بها حكاياته فيردها الى انه من المتبع ان يمزج الناس حكاياتهم بين القصة والمثل والشعر، فالفارس اذا حكيت سيرته فإنها تكون مصاحبة بشيء من اشعاره، اما الامثال فهي تدخل في تضاعيف الكلام.
وقد كان عبدالكريم ينتقي مما يرده من حكايات، فيهمل ما لا يحمل مضمونا ولا يحقق هدف المتعة والتسلية على الاقل، واذا وردت له حكايات متماثلة في المضمون والاسلوب في العدد فإنه يأخذ اوفاها وأصلحها سردا .
وكان يثبت احيانا اسماء رواة الحكايات، وهو نوع من التوثيق كالدارج في كتب التراث، وهناك هدف آخر عند عبدالكريم هو تشجيع من لديه حكاية ان يقدمها.
تتخلل بعض الحكايات تشابيه رفيعة وتكرار مما يثقل كاهل الحكاية، وكذلك ألفاظ عصرية لا تتلاءم مع روح ذلك القصص، على سبيل المثال استخدام المتر، واستخدام المطهرات والشمع الاحمر واستخدام مصطلح الخليج العربي، او ارقام من هذا العصر مثل لعيبة الصبر ثمنها 150 الف ريال، وكذلك اسقاطات من هذا العصر، مثل ارتفاع المهور وغلاء المعيشة، مثل هذه الاسقاطات لم ينج منها تراث الشعوب فالدارسون لملحمة ابي زيد الهلالي وجدوا تداعي قضايا العصر فيها، ففي الرواية الليبية تظهر ملامح المجاهد عمر المختار وقد استبدل السيف والرمح بالمدفع الرشاش.
إن الادب الشعبي حدث مستمر يواكب مسيرة البيئة التي ولدته ويعيش بين احضانها، وان الصياغات الجديدة لا تفسد المضامين والاشكال لذلك الموروث وهذا يقود الى نقطة اختلاف عند جامعي ودارسي الفولكلور، فهناك من يقول بالحق الذاتي للحكاية بأنه نقطة ارتكاز التي لا تسمح للراوي بالتصرف الا في حدوده، هذا ما سماه الجهيمان فحوى القصة وهذا لا يعني الغاء وظيفة القصاصين وقدراتهم، وهناك من يعارض هذا التوجه ويرى ان القصص الشعبي سجل شعبي ليس من حق احد ان يغيره، ومما لا جدال فيه ان القصص غير المعروف قد تأثر ومازال يتأثر بالطاقة الابداعية لأجيال الرواة المتعاقبة، كما انه يتعرض اثناء رحلته الطويلة الى زيادة او نقصان، وبين ايدينا دليل حي وموثق، وموثوق به، هو الف ليلة وليلة، هذا العمل الذي عبر حواجز زمنية وجغرافية من بلاد الهند وفارس الى بغداد الرشيد ثم الى مصر، هذا العمل اضيف اليه اساطير وحكايات من الهند وفارس والعراق وبلاد الشام ومصر وبلاد الاتراك، وبإمكان الباحثين تحديد اضافة كل بلد وحتى القارئ اليقظ ليس عصيا عليه تلمس تلك الاضافات.
وفي خاتمة هذه المداخلة المتواضعة أمام ما قدم الاستاذ عبدالكريم هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح: هل موروثنا الشعبي مازال يحتاج الى مهمة رجل مثل الاستاذ عبدالكريم او مشروع جهة علمية اكاديمية او هيئة ثقافية لجمع ما تبقى منه؟
لاشك ان هناك حكايات وخرافات واساطير وامثالا لم تجمع بعد,, هذا السؤال يستنهض اهتمامنا وهممنا لاستكمال المجهود الكبير الذي بدأه وبذله الاستاذ عبدالكريم لجمع الموروث في وسط الجزيرة, وماذا عن بقية مناطقها التي لا تقل ثراءً، لن اجانب الصواب اذا قلت ان منطقة الحجاز من اثرى المناطق، نظرا لقربها وارتباطها بمراكز الحضارات، مثل مصر وشمال الجزيرة وجنوب غرب الجزيرة، ووجود الاماكن المقدسة التي جعلت هذه المنطقة ملتقى الثقافات العربية والإسلامية هناك ثروة طائلة تنتظر المبادرة.
|
|
|
|
|