| الثقافية
كان الاستاذ عبدالكريم الجهيمان ومازال ممن يبصرون في العتمة ويسمون الاشياء بصفاتها، ويرنون الى البعيد كمن يتشوف الافق بعيني طفل وقلب شجرة, خرج في ازمة تكوين البذور الاولى للوطن فدله ضميره على الطريق: لم يكن يؤمن بأيديولوجيا محددة ولا دوغما صارمة، لكنه كان بوصلة تشير الى الاجمل وتنبه الى مواطن القصور والخلل وترتقي بطموحها الى الاعالي حيث يجب ان يكون الوطن بمؤسساته وشعبه في الموقع الامثل والمكان الاعز والارحب.
** حين استكمل عدة الكتابة وهواجس العمل كان الفضاء الثقافي والسياسي الذي يشتمل على كيان الوطن العربي قد خرج لتوه من عتمة العصور المظلمة الى نور سيادة الإنسان على مصيره ففتح قلبه لعلامات التنوير وسمعه على معطيات ثقافة الامة في ماضيها وحاضرها، وغمس ريشته في مداد تشكيل الوطن كتجربة توحيد جديدة تستحق التأمل والاحتضان بينما كان يتأمل منتقدا تقاليد المكان المرسوم بعزلته الطويلة وبرؤيته المحافظة ازاء التغيرات المادية والفكرية التي تفد اليه او يصطدم بها، ولعل الكاتب كمثقف طموح يرى خارج اقواس المكان قد انصت للحظته التاريخية التي تهز ازمنة الشرق حينها وتشكل فضاءه الثقافي مسكونة بمكونات خطاب مرحلة التحرر الوطني السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لحظة انكشاف هائلة جعلته يمزج بين المهام الوطنية والعروبة وبين الاحلام الذاتية والموضوعية، ليبدو حالما اكبر مما تتسع له مساحة الحركة وناقدا حادا لواقعه في مراحل مبكرة لم تعتد ذلك العنف، ومبشرا تنويريا يرنو الى آفاق الرقي الإنساني والحضاري الذي بلغته الامم الاخرى.
ولعل كل هذه التشكيلة من الطموحات الاجتماعية والتطلعات الثقافية قد حمّلت كلماته ومواقفه اكبر مما تحتمل واقسى مما كانت تخطه ريشته على الورق والمشاعر فاحتمل في ذلك مصاعب عديدة اوقفته عن الكتابة احيانا، وادخلته دائرة التحقيق وبعضها اوصله الى ايام العزلة والسجن.
لم يكن يتأمل وهو يكتب او يحاور المفاهيم الاكاديمية او الرؤى الفلسفية وانما اختصر ذاته المثقفة في التركيز على الواقع الاجتماعي تحديدا، فأخذ من الشعارات التي تضج بها الساحات العربية جوهرها واهدافها الاولى السامية لتحقيق مفاهيم العدالة الاجتماعية، وحرية التعبير، ووحدة مصير الامة واحلامها ما يخاطب به ذاته ووطنه وامته العربية.
** لم يكن ايديولوجيا ولا منتميا لتيار فكري او سياسي محدد ولكنه كان ضميرا منفتحا على الحياة ورافعا بيرق عزة الإنسان وكرامة الوطن، لذا قد تجد لديه من المواقف ازاء رموز الفكر والسياسة البارزين في تاريخنا العربي المعاصر ما يُعد موقفا يفتقر الى الاتساق او موقفا غير جدلي وذلك لأنه كان نموذحا للمثقف اليومي المهموم بواقع اجتماعي اشكالي يحاوره ويناوره كحكيم ويغضب منه كطفل ثم يحضنه بحنو الاب المتمرس في التعامل مع كل المتناقضات.
***
لكل نص جمالياته ولكل كاتب سماته المائزة، وجماليات نص الجهيمان تنبع من البصيرة الواعية والشجاعة العاقلة كما ان جماليات الكاتب نفسه تنبع من الايمان برسالته الوطنية وتحمله تبعاتها ذاتيا واجتماعيا ومؤسساتيا، لذا فكتابته تحمل طابع المباشرة والتقرير وحين تستعين بالترميز احيانا فإنها تستدعي ذاكرة المثل الشعبي وديوان العرب ونوادرهم لتحميلها اطراف الرسالة التي لا يحتملها رئيس التحرير او الوسط العام.
ولعل ذلك الانشغال المتوهج باليومي لم يمكنه من التمعن المعرفي في التيارات الفكرية او الادبية المعاصرة، فجاءت مقالاته وهي تنبض بطابعها العفوي الصافي لتصل هدفها من اقصر الطرق واشجعها ايضا ولعلنا ان عثرنا على مقالة او كتابة تحمل سمة الممالأة الا يذهب بعيدا بالقول بأنه يتخذها تقية او رشوة لهذا او ذاك ولكنها تعبر عن حقيقة رأيه الموسوم بطبيعة الفعل والانفعال باليومي والمرتكز على نظرة ترى ان واجب الكتابة يحتم عليه ان يشير الى المائل وهو الكثير مثلما يشير الى المعتدل وهو القليل.
***
** هنالك شبكة مترابطة من القضايا الاجتماعية التي يعمل المجتمع على حل اشكالاتها للتمتع بخبرات وطنه وتتحقق به وله نواميس العدالة الاجتماعية والحقوقية، وعادة ما يأخذ الحراك الاجتماعي معها اشكالا مختلفة تحددها طبيعة القوى الاجتماعية وخياراتها المتاحة للتعبير.
فبجانب الاحتفاء بمنجز الامن والاستقرار الذي حققه موحد الجزيرة المغفور له الملك عبدالعزيز وتلبية الحاجات الاساسية الاخرى المتمثلة في مجالات التعليم والعمل والرعاية الصحية وتطوير موارد الثروة الوطنية كانت تترقى الاحتياجات لتحقق مبادئ تكافؤ الفرص لكافة المواطنين وترنو التطلعات بعد ذلك الى خلق مساحات التعبير الحرة وآليات الرقابة الوطنية لتأخذ الصحافة دورها كإحدى السلطات الهامة في المجتمع والتي سلك الجهيمان مع غيره من الرواد طريق التعبير من خلالها لتحفيز الطاقات وتصحيح الخطوات وتأسيس البنى الاولية لمقومات المجتمع المتحضر.
ان نظرة سريعة على القضايا الاجتماعية التي تعرض لها الجهيمان وسواه في كتاباتهم تدعونا للتأمل والعرفان وتدفعنا للمزيد من الطموح والاسترسال في صياغة الاحلام لواقع قادم اكثر تألقا وتميزا تستحقه بلادنا ويستحقه شعبنا الكريم.
** ولعلنا ونحن نحتفي بانجاز الرواد نرى لزاما علينا ان نطالب بفسح المجال لإعادة طباعة وتوزيع العديد من كتب الجهيمان وعلى رأسها آراء فرد من الشعب ، ودخان ولهب ، وأين الطريق لأن اجيالنا الجديدة الشابة ستلمس بوضوح موضعنا الحضاري الذي حققناه خلال اعوام نهضتنا المباركة ولأننا سنرى معنى التغيير ومعنى نسبية الاحكام والقناعات الدنيوية التي تحكمنا والتي لو خضعت لها تجربة تطور بلادنا العزيزة لما بلغنا ما نحمد الله عليه من أسباب الحياة الكريمة المتحضرة.
***
يعد الاستاذ عبدالكريم الجهيمان واحدا من رموز جيل الرواد الاصلاحيين الذين يتسم خطابهم بالمباشرة والمصارحة والاندفاع المتفائل، وقد برز هذا الخطاب الاصلاحي عبر الصحف في مختلف مناطق المملكة مصاحبا للخطوات التأسيسية لكيان البلاد بعد التوحيد، فاضطلعت الصحافة بدورها التاريخي كصحافة منابر للرأي الاصلاحي الشجاع بعيدا عن اغراء او اغواء الربح التجاري.
ولعل هذا الدور مما يحسب لصالح عهد المؤسسات الصحفية للافراد رغم سلبياتها مثلما يفسر ايضا كثرة عدد الصحف الداخلة الى بلاط الصحافة وكثرة الخارجة المخرجة منه.
ويمكن للمطلع على المقالات التي تضمنتها مقالات الاستاذ الجهيمان التي جمعها في كتبه الثلاثة دخان ولهب وآراء فرد من الشعب ، وأين الطريق ان يقف اولا أمام هذه العناوين كمفاتيح دالة على ثقافة ورؤية كاتبها كواحد من تيار رواد الاصلاح في حياتنا الثقافية والصحفية.
وقد اشار الكاتب الى انه استقى عنوان كتاب دخان ولهب من المنطقة الشرقية التي تفجرت منها مكامن البترول وحرائق الغاز ليسهم في رقي بلادنا وانتقالها من حالة الفقر والتخلف الى افق تحدي النهضة واستحقاقاتها الحضارية الكبيرة حيث يؤكد هذا العنوان على ضرورة ان يدفع الوطن ضريبة كبيرة لدخوله آفاق العصر والتي قد تصل في بعض تجلياتها الى مرحلة الحذف والاضافة والهدف والبناء مثلما تكون ضربية استخراج البترول حرائق في الفضاء وتطويرا في الحياة اليومية، وبتأمل في عنوان كتابة الثاني آراء فرد من الشعب ، نلمس الحاح الكاتب على انتمائه الى وطنه وشعبه وابعاد صفة النخبة عنه لنصل الى جوهر اسهامه في تأكيد معنى المواطنة الفاعلة التي تقوم بما يمليه عليه وعي الضمير الحي من واجبات وحقوق باحثة مع سواها عن طريق النهضة والتقدم الوطني لتأسيس الحياة المدنية والحقوقية والمؤسساتية المعاصرة.
ويكاد كتاب دخان ولهب ان يكون سجلا سياسيا لموقف الكاتب من تركة اتفاقية سايكس بيكو التي وزعت العالم العربي كغنيمة تقاسمتها دول الاستعمار الغربي وتوجتها بزرع اسرائيل في قلب الوطن العربي المحصور بماءيه ومصيره، وقد عالج الكاتب الموقف من احتلال بريطانيا لواحة البريمي بتأكيد رؤيته العميقة لدور الاستعمار الجاسم على نبض الوطن ومصير الشعوب، ليس كقوة همجية تقوم بسلب خيرات الاوطان المستعمرة وحسب ولكنه كسد منيع يعيق تطور الانسان وبحثه عن موقع يليق به على وجه البسيطة، ولعل عنوان كتابه اين الطريق يشير الى ضرورة الثورة ضد التخلف والاستعمار معا.
** أما كتاب آراء فرد من الشعب فإنه سجل تاريخي لبرنامج عمل وطني يتواءم مع تلك المرحلة المبكرة من عمر الوطن الوليد فحمل الكتاب رسائل موجهة عبر الصحافة الى مقام جلالة الملك سعود طيب الله ثراه والى اصحاب السمو والمعالي الوزراء باسطا افكاره واحلامه لتطوير مؤسسات البلاد وانظمتها ووضع اقدامها على طريق التصنيع والاكتفاء الذاتي في مجال الزراعة وتوفير نظم التعليم المتطور ومستشفيات الطب المتقدم والعمل على تقليل استغلال الشركات الامريكية لثرواتنا البترولية داعيا الى تعليم وتدريب وتطوير الكوادر الوطنية رجالا ونساءً في كافة المجالات.
وفي مقدمته لكتابه اين الطريق يصوغ قصيدة ساخرة تشير الى تناقض الذات البشرية التي تحمل في مظهرها البساطة الاريحية بينما تخفي في داخلها قمة التناقض حيث تمتلك الكثير مما يفيض عن حاجتها غير مبالية بشقاء الكائنات الاخرى التي تشاركها نفس السحنة والموقع فيقول وهو يموضع بسخرية معكوسة ذاته في ذلك الموضع الذي يجمع بين النقيضين قائلا:
هذا انا في مظهري ماثل ابسم في اجواء هذي الحياة من مظهري قد لا ترى مخبري وهل حوى السعد او المزعجات فمنظري ينبىء عن غبطة وباطني تنداح فيه العظات وفي يدي مازاد عن حاجتي لكن نفسي موطن الموبقات تهوى احتجاز الخير في حجرها وما عليها شقوة الكائنات |
وهنا يضع قلمه على مواطن الرغبات البشرية الموغلة في الانانية والباحثة عن خيراتها الذاتية حتى وان كانت على حساب استغلال الآخرين وشقائهم.
وقد حوى هذا الكتاب كسابقيه معالجات لعديد من القضايا الاجتماعية والوطنية الاصلاحية ولعل ابرزها دعوته الى تعليم المرأة وحرية الصحافة ودعوته لتركيز انفاق دخل البلاد على اربعة قطاعات اساسية، فيصرف ربعه لقطاع المواصلات، وربع للتعليم، وربع للدفاع، والربع الاخير لكافة القطاعات الاخرى!.
لقد اشتملت هذه المقالات على مئات الآراء والافكار والمقترحات بما يحفظ لكاتبها كسواه من الرواد واصحاب المواقف الوطنية النبيلة مكانته كبوصلة لضمير وطني، سامق في صدقه، وشجاع في ابداء رأيه محتملا في سبيل ذلك ما يليق بالرواد من مواقف يحفظها لهم وجدان الوطن والمواطن وصفحات التاريخ المضيئة.
|
|
|
|
|