منذ أسابيع قليلة نشرت الشرق الأوسط ما أسمته بيانا أصدره الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان يناشد فيه العالم أن يحافظوا على لغاتهم، وهو يقصد بطبيعة الحال جميع اللغات البشرية، الشهيرة منها وغير الشهيرة,, وما يسمى باللغات الحية، وما يوصف باللغات الميتة.
ذلك ان اللغات هي التي تميز ثقافة كل أمة من أمم الأرض مقرونة بأسس دياناتها وتراثها المعرفي على أي مستوى كان.
وأكد الأمين العام للأمم المتحدة ان في العالم اليوم ستة آلاف لغة وانه يجب استعمالها والمحافظة عليها حتى لا تنقرض .
***
وحسب علمي، فإن هذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها الأمين العام للأمم المتحدة بيانا يخص هذا الموضوع، يحث فيه العالم أجمع على ضرورة المحافظة والرعاية والاهتمام باللغات الانسانية حتى لا ينقرض شيء منها.
وإصداره البيان المشار اليه لفتة عالمية ممتازة,, يريد منها ان تبقى لغات البشر مهما كانت منزلتها حية باستعمالها من قبل الناطقين بها فلا يعمدوا الى استعمال اللغات الحية العالمية على حساب لغاتهم القومية.
والأستاذ كوفي عنان من أنجح من تولى الأمانة العامة للأمم المتحدة في عقديها الأخيرين، فحين يولي هذا الموضوع اهتمامه مع انه موضوع ليس في دائرة الحرب والسلم اللهم الا ان تكون بعض اللغات مرتبطة بفكر وثقافة تصادمية مع ثقافات أخرى فحين يولي كوفي عنان هذا الأمر عنايته الأممية فهو مما يوحي بالخطر الداهم على اللغات التي يستهين بها أهلها,, ومن هانت لغته عليه فهو على الناس أهون,.
ومن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام |
لاريب ان اهانة اللغة القومية هو إهانة للأمة الناطقة بها.
كما ان إهانة اللغة أو الاستهتار بشأنها هو اهانة للدين القائم عليها.
وبالنسبة لنا نحن العرب فإن لغتنا العربية الفصحى هي لغة الدين الاسلامي القائم عليها وحيا عقديا، وتشريعا نظاميا، وثقافة حياتية هي الجوهر الرابط بيننا مهما تباعدت المسافات، وتعددت البيئات والعادات.
إن اللغة الفصحى هي كنهنا الخاص بنا,, ولا يشاركنا في هذا الكنه الا من كانت العربية الفصحى لغته الأولى، علما، وتأليفا، ونشرا، وفق قواعدها وأصولها,, أما استعمال العاميات في الحياة العامة لكل مجتمع فيما هو دون الخاصية الجامعة للأمة العربية فهو شيء آخر، ولا مندوحة عنه في الآماد المنظورة,, والله أعلم بما تكون عليه الأمة في الحقب القادمة,,!
والمهم في الأمر أن تبقى العاميات المحلية في حدود أُطُر الحياة اليومية، بحيث لا تطغى على المهمات الموكولة الى أمها الاصيلة في التناول العلمي، والأدبي، والثقافي، بل والتخاطب بالفصحى ما كان ذلك ممكنا.
ولو سلك رب الاسرة هذا المسلك في التخاطب مع أولاده وزوجته ومن تحت يده بالفصحى بعض الأحيان لتعودوا على استعمالها والنطق بها,, وفي هذا تقوية لأولاده في دروس اللغة العربية,, وبالتالي تشيع الفصحى في المجتمع,, وتتقلص العامية تدريجيا.
إن تمادي من يملكون حق إصدار القرارات، في تجاهل الاعوجاج الحاصل في كل مجتمع عربي من المشرق الى المغرب,, نحو الرابط الجوهري بين شعوب أو مجتمعات الأمة,, سوف يعرض اللغة الفصحى الى ما لا تحمد عقباه، بعد ان تجف المنابع بفعل التغاضي والإهمال,, او التشجيع غير الموفق على الانسراب من الجوهر الرابط بين الأواصر العربية,, الى بُنَيّات الطريق والانكفاءات الشاملة كل إلى لهجته المحلية وحسبنا بذلك تمزقا وانحدارا والويل لثقافة أمة تستهين بلغتها التي بنيت عليها ثقافتنا، حين تترك حبل الهازئين والمستهترين بها على غواربهم,, يفعلون بكينونة الأمة ما يحلو لهم ويستبدلون الذي هو أدنى,, العامي بالذي هو,, خير الفصيح .
***
إن لغة القرآن الكريم لغة الاسلام تتعرض منذ سنوات الى ثلاثة عوامل هدم، وانهاك، واستفزاز، وتحد، لا يصح السكوت عنه,, يتمثل في التالي:
1 بعض الفضائيات المحترمة جدا والتي من فضائلها ومحاسنها العري الفاضح ! بقدر يخيل الى المشاهد ان مذيعاتها يتهيأن لأمر ما ,,, وليس هذا فحسب,, بل جمعن حشفا وسوء كيلة ,,فبالإضافة الى عرض المفاتن، يعرضن برامجهن باللهجة العامية بدعوى التسهيل على الفهم,, في حين ان الحقيقة غير ذلك,, انها الضعف في اللغة الفصحى,, وتغطية لعجزهن باستعمال اللهجة العامية.
***
2 طغيان الشعر العامي الذي لا طعم للكثير منه، ولا رائحة، ولا لون,, ولا قيمة له من حيث الفكر والمضمون,, اذ يدور أغلب ما ينشر من هذا الشعر بين نزعتين: اما المراهقة المتأخرة,, واما الشحاذة المكشوفة والمقنعة ولقد غصت وسائل الاعلام في الجزيرة العربية - المقروء منها والمشاهد والمسموع بهذا النتاج حتى الاختناق,, وبشكل اغراقي,, لم يجد من يوقف اندفاعه المجنون,, الذي لا سابقة له في التاريخ القديم والحديث!
ومع ان الشعر العامي شيء طبيعي، ولا اعتراض عليه في ذاته، وهو موجود في جميع الدول العربية,, الا ان ما ينشر منه في وسائل اعلامها لا يساوي شيئا يذكر مما ينشر هنا وفي دول الخليج,, ولذلك أخذته بعض تلك الدول دليلا على اميتنا وجهلنا كما يزعمون,, وانساهم - سواء بقصد سيئ أو بدون قصد - ما عليه بلادنا من تطور ثقافي شمولي يفوق في كمه ونوعه كثيرا مما تملكه بعض الدول الشقيقة خارج الجزيرة العربية.
ومن دعا الناس الى ذمه ذموه بالحق وبالباطل |
أنلوم أولئك الذين يحقرون ثقافتنا,, ويسفهون أحلامنا,,؟ وقد أعطيناهم ما يستشهدون به على دعاواهم الباطلة؟
فنفسك لُم ولا تَلُم المطايا ومُت كمدا فليس لك اعتذار |
***
3 ثالثة الأثافي، أو أخطر معاول الهدم للغة العربية فصيحها وعاميها,, هو غزوها في عقر دارها وعقوقها من أهلها أولا,, ومن الوافدين الى أرضها والناعمين بخيراتها,, ثانيا.
لقد استبعدت اللغة العربية استبعادا كاملا من كثير من مؤسساتها، وشركاتها، وفنادقها,, التي أصبحت لغتها هي اللغة الانجليزية وحدها في حين ان الواجب ان تكون اللغة العربية اصيلة في جميع النشاطات الاقتصادية والتجارية وغيرها,, ولا مانع من اردافها باللغة الاجنية كما نص على ذلك قرار خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه والذي صدر منذ أعوام ولم ينفذ حتى الآن.
إن اللغة القومية أو الوطنية في جميع دول العالم هي المقدمة والمعمول بها في جميع مناشط الحياة بين أهل الوطن,, والوافدين اليه.
وكل الدول التي تعتز بلغتها وثقافتها,, لاتسمح باستخدام لغة أجنبية ما لم تكن مقرونة وتحت اللغة الوطنية,,فلماذا نحن صرنا الجدار القصير كل يجتازه ولا يسأل أو يُحاسب,,؟ ولعل هذا من جملة ما عناه بيان أمين عام الأمم المتحدة الذي دعا فيه جميع الأمم للحفاظ على لغاتها , فإلى متى تبقى لغتنا لا وجود لها في كثير من المؤسسات الكبرى كالخطوط الجوية، والشركات والمحلات التجارية وغيرها,,؟
|