| الثقافية
عبدالرحمن الدرعان
غسق الليلة الثالثة يتسلل من الستارة نصف المغلقة، ويسبغ الاثاث بدرجةِ لونٍ خافتٍ تليق بحالةِ من يُحتضر، هي ليلةُ أخرى تجر عرباتِها بِوَهَنٍ باذخ بعد أن أفرغت حمولات اليأس على قارعة الروح، ثم تمضي إلى لا مستقر لها.
كانت عيناك طول النهار تَرِفّان، ولهذا أوجستَ مترقباً أن يجيءَ أحدٌ يعرفك, فإذا اشباحٌ يقطعون عليك أوقاتِ الخلوة، يجسُّون خارطةَ الجسد بعيون محايدة، يتبادلون الألغاز,, ويتكلمون بضمير الغائب، حتى إنك لتكاد تصدقهم وكأن شيئاً لايعنيك، لكنك تستطيع بخبرتك الطويلةِ مع هؤلاء أن تنجّم شيئا ما ،انت تخطف بعض الكلمات البطيئة التي حفظتها في الثانوية تحت وعيد المدرسين الذين خلعتم عليهم آنذاك لقب الأساتذة !!
لم تكن من المهارةِ بحيث تترجُمها على وجه الدقة, لم تكن ماهراً قط في المدرسة وإنما أنت على يقين شاسعٍ بأن هذا الشيءَ يتعلق بمصيرك,, ولذا استحضرت قائمة الأمراض المستعصية وجعلت تختارُ منها كلَّ ليلةٍ مرضاً معيناً تحدده، أنت وتعيش أعراضه كلها عرضاً عرضاً ثم تستبدله غداً بمرض آخر اشدّ خطورة,, وفتكاً حين تفاجئك في الصبح أنفاسك الدافئة أنك مازلت حياً، وهكذا كنت تتذابلُ كقمر ذاهبٍ إلى المحاق.
من الواجب عدمُ كتمان الحقيقة، فقد كان الطبيب الأكردُ الذي لم تتعرف على اسمه بعد، يتمنى أن يجدَ لك مخرجا، غير أنه يُذعن ل(الديك) الواقف قبالته وهو يزقو بجمل قصيرة ونهائية تُسَفِّهُ الأمنيات بالشفاء وتعقر الأمل، إمارات الكبرياء كانت باديةً عليه بالذات لما لاحظت أنه لم يكن يلقي بالاً للانحناءات المعبرة عن الكياسة من زملائه الصغار، فقط لأن مرتبه أعلى من الآخرين.
ترمق النائمَ بجوارك عبر الساتر المفتوح، وتتوسل إبرة الأرقِ المغروسةِ في عينيك أن تستدين خيطاً من شخيره الطويل ترفو به جفنيك اللذين كلما أسبلتَهُما في محاولة النوم عانَقَتكَ وجوهُ زملائك طالعةً من أنقاضِ الليل.
هل أنت إذاً ترد عليهم التحياتِ البعيدةَ,, وتتوقع مجيئَهم في رفَّةِ الجفن,, أكنت ستعرفهم؟! هؤلاء الذين صدّقوا السنواتِ، ومضوا في طريق العمر أشتاتاً لا يلوون على اثاث طفولاتهم، ناسين النزوات الصغيرة، وسرقات بطيخ الحقول والمراهنات على الجري فوق الاسوار والسطوح وعجلان الخردة، وتلك الاجتماعات السرية لاقتراف الرقص حول جالون فارغ ابليتم بلاء الغلابى لكي تحولوه بقدرة اصابعكم النحيلة الناعمة يومذاك إلىعود زرياب !!
تصحو من اصدقائك تصحو من نسيانهم على اثر وخزة فَصَدَت وريدك، إذ تنتبه للممرضة تبدّل حوض المصل وتفتح نفقاً في ذراعك المطهّم بالكدمات الخضراء, تسبل جفنيك وتبتلعُ دمعةً كادت أن تفضحَ رباطةَ جاشك، تبتلعها بعد مكابرة وتتابعها تنسرب عبر التجاويف الكثيرة حتى تحس بها تستقر على قلب يتوكأ على نبضاته العرجاء, وبعد أن انغلق الباب من تلقائه خلفها بدأ شللُ لذيذُ يَدب على أطرافك، ولم تكن تفكر إلا بالأبواب، فإذا إن عينك عادت تستأنف رفتها من جديد.
صرفت النظر عن الموتى، وارتَطَمَت أحذيةُ ذاكرِتكَ على وجهه هو بالذات، كان بعد حادث المرور يتجاهلك، لأنه صار ضابطاً يتباهى بتحيات الجنود ويوقع على الورق بينما كنت طوال الوقت تسأل:
كيف لهذا الرجل الفظّ أن تكون له طفولةُ ذلك الولدِ الناعمِ المتسلل دائماًإلى العاب الإناث الصغيرات، المكسور تحت منابزاتكم في ضحى المدرسة:
الولد مع البنات,,خزته شوكة ومات!! آآت، مات,, آآت مات , (1)
ثم اختفى حتى اعتقدت رجماً بالغيب أنه مات فعلاً.
كان لأمرٍ ما يتجاهلك، أنت الذي لم تُذِع سراً من الاسرار, إنك لم تطلب منه أن يُؤجل عمل اليوم إلى الغد، أويذهب بمعيتك إلى الأمس كي يستولي على نقودك القلبية في مقابل أن يهبك بعض الاشياء التي لم يعد لها الآن أيةُ أهمية ولكنه يضع قبعته على الكرسي المجاور، يرمقك عبر زجاج المكتب الصقيل، ويتركك واقفاً رغم أنه لم يكن يدور في خَلَدِك أن تقبّله أوتتسلف منه إحدى سيارات الدوريات الكثيرة، كان لأمر ما لا يعرفه إلا أنتما يتجاهلك.
تتذكر أنك لم تره (بالفعل) منذ أن مات! وأنت لا تعرفه، ولا تعرف هؤلاء أصلاً فلماذا يتبرعون بتقديم النصائح لك، ويسهرون من أجلك، وإذا غابوا بعض الوقت ارسلوا إليك وجباتٍ نظيفةً وشرائح من فاكهة الموسم وورقاً معطراً، وأمس صادروا للمرة العاشرة السجائر التي تتلف قلبك ورئتيك.
تحدق في سريرك البارد،وتسافر معه على جسر الخشبِ حتى تصل إلى نهاية الغابات، ثم تطلق نِبلَتَكَ بفارغ صبر: إلى متى تعاملونني كالقطط البرية,, هل تنتظرون أن أَلِدَ عندكم؟؟!
وتشير بعينيك إلى مواضع الخراب في ذراعك التي عاثت بها الإبر، وإلى الأفعى الزرقاء، تنزل حتى تغرس في لحمك أنيابَها, تبتسم لك المرأةُ التي رشحتها منذ الوهلة الأولى على أنها أكَثرُهُنَّ لطفاً، وحينئذ لاتملك إلا أن تبتسم لها ابتسامة الذي يستجدي.
هاهي تجهد كثيراً في سبيل مجاملتك، وتحاول أن تمحوَ لوغارثيمات الوسواس والجير المتلبد على مرآة قلبك، وترمي عليك أفقاً شاسعاً كالبحر، وأحيانا تقسو عليك قسوة مفتعلة ليست سوى رسالة تريد من خلالها أن تزخرف لك الغد وتبني لك أملاً يمنعك من محاولة الانتحار التي اعترفت بها خلال هذيانك ساعة البنج، تلمح لك بالزواج وتعدو متعللةً بالمرضى وتتركك تتمرغ بالصبوة بانتظار ورديتها.
ألم تألفنا بعد؟!
يدخل جارك المريض الذي كان قد أفاق قبل قليل بهوَ الصمتِ المشيّدِ على السطر الثاني من حوار لم يتم، حيث علّقتِ السؤالَ وخرجت، ويقول بعد أن مسح وَخَامَةَ النومِ عن وجهِهِ ما معناه (أَعطِها لؤلؤاً لا أصدافا) ويضيف بعد أن يرتاح لردودِ الفعل: هم هكذا مستعجلون دائماً، وليس لديهم وقت لمعالجة الأصداف!!
وبالفعل فقد بدوا غير عابئين، ويبخسون كلماتِنا الوقت الكافي لسماعها, لقد فات الأوان، لأنها خرجت تاركةً هواءَ العرفةِ يعوم برائحتها.
كان مذيع النشرة يطلّ، ويتعقبُكَ بعد أن يختلسَ نظرة إلى الكراسي الوثيرة المعدةِ لرجال يمشون عبر ممرٍ واسع (كان واسعاً حقا,, وكانت وثيرة)
وفي أثناء الغفوةِ القصيرة عثرتَ على وجه (عوض) الذي ابتلعته البئرُ ملفوفاً بعباءة أحد الرجالِ المتدافعين بقاماتهم لانتشاله، لمستَ جمجمته كانت ما تزال مهشمة ودمٌ قاتم يتجلّط بين رضوضها، كان جسمُهُ الصغيرُ يتدلى كالميزان بين كفين كبيرتين ومن فمهِ المفتوحِ عن آخره ينبثق حبلُ رخوٌ من بكاء النخل وأشجار الخوخ المسنّة,, والشجيراتِ التي تتقافز بقعاً صغيرة على المنحَدَرات وتنمو عبثاً، وعلى مرآة البئر رأيتَ ثياباً طافحةً على بقعة من الدم، ورأيت سماءً أخرى.
تصحو على نوبةٍ ثقيلة من الربو وتصيح بالدكتور فيرناند , أخرجوهم! إنهم يسرقون خطواتِهِم من غفلتكم ويقفلون آخر الثقوب التي أتنفس من خلالها.
وأمس فقط، سمحوا لك بكوب لبن، وكلَّمت أمك لتطمئنها أنك بعد مازلت على قيد الحياة,, وضحكتَ بتلقائيتك المعهودة حين أشارت عليك أن تجرب المشائخ، ولكنك بعد أن ارخيت السماعة,, رأيت المذيعَ يسرق نفساً من سيجارتك ويمج دخانها الكثيف دون أن يحسب حساباً للجهود التي بُذِلَت في سبيل تهريبها، ثم يعود إلى الشاشة,, مستغلاً فترة الاستراحة بين فقرتين.
أخرجوهم، ايها القساة!!
اهدأ , يقول جارك بصوته الطالع من وَهَنِ النوم, اهدأ، ودعنا ننام (هو الذي لا يصحو إلا في أوقات الزيارة) ثم غلب عليه الضجر والتأفف,, واستدار إلى جهة الجدار.
أهو مريض أم يعمل لحساب جهةٍ ما, يا إلهي!! هل ارسلوه أيضاً, وتذكرتَ أنه وَعَدَك أمس بامتيازات الرجل الذي قام بزيارته قبل أيام، وعرض عليك الكُمثرى (كانت هذه العلامةُ الغارقةُ قد قطعت كل شك):
إنه عقيد متقاعد، وإذا أراد شيئاً رفع السماعة وباشر أوامره بدون تحية!
تفكر بالكمثرى، والحمى,, بأمعائك، وبالليلة الأولى التي كنت فيها أكثر رعونةً من مجرم يقتاد إلى معتقل وتهيج بك الرغبةُ في المشي.
إنه مقيد ولن يستطيع الوصول إليكم.
لا تدري كيف التقطت أذناك كلماتِ الزوار الموجهةِ إلى أطفالهم المفزوعين من شعر لحيتك الهائش ومن هذيانك ثم كيف كنت تراهم يطلون عليك من خلف الأكتاف على الأنبوب ويعودون من خوفهم.
عنّ في بالك أن تحرر يدك بأي شكل وتنام قريباً من العتبة,, أو تحت السرير المتقوس مثل بطن الأتان، وفجأة ألفيت نفسكَ بين سواعدَ ناعمة، تنتزعك من العربة وأنت تضحك بعد جرعة مورفين فتتدفق من فمك متتالية طويلة من القهقهات ذاهباً مع فريق الممرضات إلى نزهة قصيرة للنسيان.
*هامش:
1 من منابزات الأطفال
|
|
|
|
|