أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 17th April,2000العدد:10063الطبعة الأولىالأثنين 12 ,محرم 1421

محاضرة

منظمة العفو الدولية
مستحلبٌ للمصالح الاقتصادية والسياسية
مضواح بن محمد آل مضواح *
جميل جداً لو كان في هذا العالم منظمات ترعى حقوق الإنسان وتصونها عن ابتذال العابثين,, تنفذ التزاماتها بصدق، وتقارن بعدل,, لا تكيل بمكيالين، ولا تساوم, ولا تؤثر في مصداقيتها مصلحة سياسية أو اقتصادية أو مذهبية,, هنا تكون حقوق الإنسان غاية لا وسيلة، في كل مكان وزمان, وفي مواجهة كل انسان بغض النظر عن جنسه ولونه وعرقه وديانته، وتقدمه أو تخلفه، وهنا أيضاً يركن كل انسان الى صدق نوايا تلك المنظمات، وتحظى باحترام الظالم والمظلوم، ويصبح لها هيبة تمهد الطريق إلى عالم يسوده العدل والمساواة والسلام لخير الشعوب وسعادتها.
من المعلوم ان مفهوم حقوق الإنسان ينتمي إلى العلوم الاجتماعية, وهي علوم أزمة، فهي تعاني من الاختلاف على المفاهيم حتى بين علماء المدرسة أو المنطلق الواحد، ولهذا السبب تحدث كثير من حالات التلاعب بالألفاظ عندما يحاول أحد الفرقاء تفسير أي مفهوم حسب قناعاته أو مصالحه، وهذا ما أصاب مفهوم حقوق الانسان الذي اعتمدته الأمم المتحدة فيما يسمى بقانون حقوق الإنسان سنة 1948م، وما تلاه من عهود ومواثيق وقرارات، فهي جميعاً تنطوي على كثير من مواطن الاختلاف, النظرية والتطبيقية, التي يمكن اثارتها واستغلالها من قبل المجتمعات القوية والضعيفة, وتتضح تلك المواطن الخلافية فيما يمكن أن يتم الحصول عليه من اجابات على عدد من الأسئلة من قبيل: هل مصادر قانون حقوق الانسان وآليات تنفيذه والرقابة عليها دينية أم وطنية أم دولية أم كل ذلك معاً؟ أليس الضغط على مجتمع من المجتمعات، كي يتبنى مفهوماً لحقوق الإنسان أو أي مفهوم آخر حتى وإن كان يخالف ما يسود فيه من أنماط ثقافية ضربا من انتهاكات حقوق الإنسان؟ هل البشر جميعاً جديرون بحقوق انسانية متساوية في نظر العالم المتقدم؟ لماذا سكتت منظمات حقوق الانسان عن انتهاكات صارخة لهذه الحقوق في أماكن متعددة من العالم؟ أليس الاعتراف (recognition) بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة في آدميتهم وحقوق متساوية وثابتة في الأمن والسلام يشكل أساس الحرية والعدل والسلام العالمي؟ أليس من حق الشعوب، كما الأفراد أن تختار نوع الحياة الذي يسعدها، بموجب قانون حقوق الإنسان نفسه؟
ستُظهِر الاجابة على هذه الأسئلة مجالات شتى للاختلاف حول هذا المفهوم، ولا شك أن التعسف في املاء المفاهيم يدفع بالخلافات والتعصب والأنانية الى أقصى الحدود، ويرفع وتيرة الظلم والشكوك وعدم الثقة بين الشعوب، ويورث أحقاداً تظل جذورها ضاربة في أعماق الأجيال لمدد طويلة، فالتقدم الفكري وأساليب التحليل والاستنتاج لم تعد حكراً على المجتمعات الغربية, حتى ان الفرد ذا الثقافة المتواضعة من أفراد العالم الثالث قد يفهم من دقائق الأمور السياسية أكثر مما يفهمه أمثاله في العالم المتقدم صناعياً والغرب في هذه الحالة يجازف عندما يوظف حقوق الانسان سياسياً لخدمة مصالحه على حساب الغرض الحقيقي من وجودها,, وجملة يوظف حقوق الإنسان سياسياً يظهر معناها في أنصع صوره حين تغض منظمات حقوق الإنسان الطرف عن انتهاكات مروعة لهذه الحقوق,, عندما تكون هذه الانتهاكات تجر منفعة لتلك المنظمات، أو عندما لا تهدد مصلحة من مصالحها, أما حين تشكل الانتهاكات أي تهديد لمصالحها، أو تكون قد استنفدت تلك المصالح أو وجدت البديل لها, أو لا تكون لها أي مصلحة في مجتمع تُنتهك فيه هذه الحقوق، أو تكون لها مصلحة يمكنها أن تزيد من تدفقها، بالابتزاز والظلم والافتراءات، فإن المارد يخرج من القمقم، يزبد ويرعد, ينتقد ويندد، ينشر ويفضح انتهاكات لحقوق الانسان حدثت منذ زمن,, وكأنه لم يرها إلا في التو واللحظة, ليس هذا فحسب، بل إن هذا المارد حول حقوق الانسان إلى سلاح فتاك يشهره حتى بالزور والبهتان، في وجه أي مجتمع لا يعطي الأولوية لمصالح تلك المنظمات,, الأولوية حتى على مصالحه الوطنية! وهو بالتأكيد، ما لا يمكن أن تقبل به حكومة المملكة العربية السعودية وشعبها.
ومن يستعرض مفهوم حقوق الإنسان، عبر خط زمني يبدأ بمعركة سولفرينو عام 1859م ويمر بالحاضر متجهاً إلى المستقبل، يدرك كثيراً من الوقائع والتحولات التي طرأت على هذا المفهوم, ويستشرف آفاق مستقبل تنبئ بوادره بتوظيف سيىء واستغلال ممقوت لهذا المفهوم وما يرتبط به من قوانين ومعاهدات وقرارات دولية.
ومع أنه لا يمكن استعراض كل ذلك فيما هو أقل من مجلدات، إلا أنه يمكن التطرق إلى بعضه بلمحة موجزة ومركزة: ففي عام 1859م حدثت معركة سولفرينو بين فرنسا وصربيا من جهة، والنمساويين من جهة أخرى, واكتظت أرض المعركة بالقتلى والجرحى من الطرفين,, لم يجد الجرحى من يسعفهم فظلت جراحهم تنزف، ولم يقف احد ليواري جثث القتلى، وهي مشاهد مألوفة في أعقاب المعارك التي كانت تدور في الغرب آنذاك, فالناجون يغادرون أرض المعركة دون أي اعتبارات لانسانية الضحايا، وحين كان أحد السويسريين يتفقد أرض المعركة بحثاً عن غنيمة، ويدعى هنري دونان راعه هول المنظر فذهب يصرخ في النساء والرجال للقيام بمساعدة الجرحى ودفن الموتى، فكانت هذه الحملة أول حملة حقيقية لنصرة حقوق الانسان حياً وميتاً، وكانت بداية عظيمة لتبلور مفهوم صحيح لهذه الحقوق، وفي عام 1862م ألف كتاباً بعنوان تذكار سولفرينو فقدح به شرارة حقوق الانسان في كل أوروبا, وإثر ذلك نشأت فكرة الصليب الأحمر الدولي,, هكذا كانت نشأة مفهوم حقوق الإنسان مبنية على تقديم العون والمساعدة لمن يحتاجها، في مثل تلك الظروف، بغض النظر عن الجنس والانتماءات، إلا أن مفهوم حقوق الانسان وظف خلال مراحل الاستعمار القديم لحماية جيوش الاستعمار والأقليات التي خلفها لتحقيق ورعاية مصالحه حتى تستنفد أو يوجد البديل لها, كما كان الحال عليه إبان الفصل العنصري (Apartheid) في جنوب أفريقيا، ووظف كذلك لحماية أسرى ومرضى الدول الغازية، من غير ما التفاتة لأمثالهم من ضحايا الشعوب المعتدى عليها، وكأن هذا المفهوم قد نشأ لخدمة أجناس دون أخرى,,, !.
وحين وضعت الحربان العالميتان أوزارهما وبرز الاتحاد السوفيتي قوة عظمى، وظهر نوع جديد من الحروب هو الحرب الباردة، وظف مفهوم وقوانين حقوق الإنسان لصالح الصراع بين الدولتين العظميين، ونتيجة لهذا التوظيف لم يصدر الاعلان العالمي للقضاء على كل أشكال الاستعمار إلا في عام 1960م، رغم أن الاعلان العالمي لحقوق الإنسان قد صدر في عام 1948م, ويعود السبب في تأخر صدور الاعلان الخاص بتصفية الاستعمار إلى كونه يعطي لكل أمة الحق في ممارسة السيادة الكاملة على أراضيها وثرواتها الطبيعية والصناعية، وهذا سيضر بمصالح الغرب، الأمر الذي أدى إلى جدل واسع بين الشرق والغرب عطل صدوره حتى تم العثور على حل وسط، يلحق بمصالح الكتلة الشرقية نفس القدر من الضرر، وتمثل هذا الحل الوسط في ربط حق الأمم في السيادة، التي تضمنها الإعلان العالمي للقضاء على جميع أشكال الاستعمار، بحرية الأفراد السياسية والاقتصادية، والحرية الديموقراطية بشكل عام.
وعلى الرغم من صدور الاعلان الخاص بتصفية الاستعمار، الذي كاد أن يكون فتحاً عظيماً في تاريخ البشرية لو اقتصرت ممارسات تطبيقه على الهدف الحقيقي منه، فقد استمرت الهجمة التنافسية الشرسة على مجتمعات العالم الثالث مما أدى إلى صراعات وحروب نهبت خلالها أوطان وأموال وثروات، تحت ستار حقوق الإنسان وحق تقرير المصير الذي أصبح معناه عند القوتين العظميين: الانحياز لأي منهما,, ومن هذا المنعطف الخطير، لمفهوم حقوق الإنسان ومفهوم حق تقرير المصير، ظهر نوع جديد من الاستعمار يمكن تسميته الاستعمار الحديث، ويعتمد على تقسيم العالم الى مناطق نفوذ غربية وأخرى شرقية, ودأبت منظمات حقوق الإنسان تفرض الاقتناع على الدول الواقعة في مجال المنظومة الغربية، بأنها هي الحامية الحقيقية للعدل والمساواة، ودأبت كذلك على ارهابها وتخويفها من أطماع المنظومة الشرقية,, وانتهجت المنظومة الشرقية المسار نفسه، في تفاهم واتفاق حقيقي على تبادل المصالح، فسادت العالم الثالث حالة من الارتباك الفكري والخوف على الأمن القومي، ويقيني أن الاستعمار الحديث هذا قد ألحق بمجتمعات العالم الثالث أضراراً تفوق الأضرار التي لحقت بها جراء الاستعمار القديم الذي كان يعتمد على ابقاء الجيوش الغازية في الأوطان المستعمرة: ثروات نهبت، وتسهيلات مست الأمن القومي، وتعطيل فكري، وتأخير تكنولوجي، وانهيار معنوي ومادي، وفوق ذلك مئات الألوف من الأرواح التي ازهقت في معارك، وبلا معارك، بسبب هذا التوظيف الخاطئ لمفهومي حقوق الانسان وحق تقرير المصير.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بردت الحرب الباردة وعادت الحرب الساخنة فعلاً، انه الوقت الذي تنتظره منظمات حقوق الإنسان لتوجيه مفهوم حقوق الإنسان وحق تقرير المصير إلى مسار بالغ الخطورة والأهمية، حشدت له طاقات مادية وايديولوجية هائلة منذ نشأتها، ألا وهي وجوب التدخل أو حق التدخل Right of Intervention لوقف أي انتهاكات لحقوق الإنسان, واعتُمد هذا المسار الجديد بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 131/43 وتاريخ 8/ ديسمبر 1988م، الذي بموجبه يجب التدخل، باسم حقوق الإنسان، في شؤون أي دولة حتى وإن كانت ذات سيادة كاملة، وهذا مؤشر واضح ينبئ عن توجه لإساءة استخدام مفاهيم وقوانين حقوق الإنسان، في المستقبل، بشكل أوسع وأخطر من ذي قبل، فهذا القرار بمثابة تشريع من منظمات حقوق الانسان للعدوان على شعوب العالم الثالث، لتمكين هذه المنظمات من سيطرة أكبر على هذه الشعوب، وخلخلة قيمها ومكونات ثقافاتها، وتذويبها في أمواج الطوفان العلماني البحت.
وما يزيد الأمر أسى أن منظمات حقوق الإنسان وهي تمثل كثيراً من مصالح المجتمعات الغربية ما زالت تنظر إلى الوطن العربي، والمواطن في العالم الثالث بعامة، على أنه: مواطن ساذج، ذو ثقافة محدودة، وثقة مطلقة في منظمات حقوق الإنسان، وسطحية مفرطة، قلما يستنتج استنتاجاً صحيحاً تلك المؤثرات والأهداف التي تتوارى خلف الظواهر والشعارات البراقة لمنظمات حقوق الإنسان، مفرط في مثاليات التسامح عند مواجهته لجشع الآخرين.
تلك، ولا شك نظرة غير ثاقبة، فلقد استفاد مواطن العالم الثالث تجارب كثيرة، بحكم كونه ظل مجالاً مستهدفاً من قبل منظمات حقوق الانسان، حتى اصبح باستطاعته أن يميز بين حقوق الإنسان وشعارات الجشع والاستغلال,, إن من أوضح الأدلة على وجود تلك النظرة المشينة، في فكر منظمات حقوق الإنسان، أنها ساقت دعاواها، بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان في المجتمع السعودي, في هذا الوقت بالذات,, وقت تظهر فيه الدوافع والأسباب سافرة إلى حد مضحك,, مما يجعلني أراهن على أن هذا التوقيت قد اتى بنتائج عكسية للأهداف التي توختها منظمة العفو الدولية من حملتها على المملكة العربية السعودية,, أأقول أحد الأسباب والدوافع التي كانت وراء ظهور هذه الاتهامات في هذا الوقت؟ نعم أقول صادقاً: لو أن المملكة العربية السعودية ضغطت على منظمة أوبك، في مؤتمرها الأخير، لتكون الزيادة في كمية انتاجها من البترول أكبر مما تم الاتفاق عليه، وبالقدر الذي يرضي منظمة العفو الدولية، لما ظهرت تلك الاتهامات متزامنة مع التحسن الذي طرأ على أسعار البترول في السوق العالمية، هذا أحد الأسباب، وما خفي كان أعظم!لماذا لا تريد منظمة العفو الدولية أن تصدق بأن غالبية أفراد العالم الثالث أصبحوا مثقفين ومطلعين، إلى درجة ساعدتهم على التخلص من الأفكار الباثولوجية التي كانت تعتمد عليها في الترويج لايديولوجيات وشعارات لا تخدم سوى مصالحها، وساعدتهم كذلك على التأكد من صحة قناعتهم بأن هذه المنظمة أصبحت مستحلباً للمصالح الاقتصادية والسياسية، وسلاحاً يشهر في وجه أي مجتمع، في العالم الثالث,, يتخذ اجراءات تحقق أمنه واستقراره، وتحافظ على ثروات اجياله، ولا تجد منظمة العفو الدولية أن هذه الاجراءات قد أعطت الأولوية لخدمة مصالحها.
وطالما أن غالبية أفراد مجتمعات العالم الثالث قد أدركوا الأهداف الحقيقية لمنظمة العفو الدولية منظمة الظلم الدولية وأدركوا ان هذه المنظمة تنظر لهم نظرة استخفاف، وتستهين باهليتهم لفهم الأمور على حقيقتها، فلا أظن تلك المنظمة ستفرح بعد اليوم أن يصدقها أو يثق بها ذو عقل من أبناء مجتمعاتنا.
ولا أظنها تفلح في السعي لاستعادة ثقتهم في مصداقيتها، ما لم تكن انجازاتها، في المستقبل نزيهة فاعلة محايدة، ومنطلقة من حقيقة أن اساس حقوق الانسان هو الاعتراف بانسانية وكرامة المخلوق البشري، وان تلك الانسانية والكرامة غير قابلة للمساومة أو التمايز بسبب اختلاف الأجناس، أو الأعراق، أو الألوان، أو الأديان، أو الزمان، أو المكان، أو تحت أي مبرر أو ظروف أو مصلحة من المصالح.
* ماجستير في علم الإجرام من جامعة منيوتا.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved