أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 16th April,2000العدد:10062الطبعة الأولىالأحد 11 ,محرم 1421

مقـالات

متى يصعد الكلم ,,, ؟
د, حسن بن فهد الهويمل
لم أتردد في أمر أحبه ترددي في الاستجابة لبدء الكتابة الملتزمة، وعندما عزمت على البدء انتابتني خيارات متعددة حول القضايا والظواهر، عماذا أكتب؟ وماذا أكتب؟, وتلبدت التساؤلات وتكاثرت الخيارات، وكان أن زرت رئيس التحرير أبا بشار في مكتبه، وتداولت معه الرأي وخرجت أكثر حيرة وأشد تردداً، فالرجل لا يملك أكثر من اتاحة الفرصة وتهيئة الاجواء، لقد وجدته الأكثر ميلا إلى القضايا العامة، ووجدتني الأكثر ميلا إلى القضايا التخصصية، والمؤكد أن الجريدة تدخل لزز الخيول الأصيلة، وتواجه التحدي في أدق مراحله، وأنا كالأخطل مع جرير جئت بادي الضعف كثير الالتزامات، والمرحلة المعاشة تموج بكل انواع الفعاليات، والكتاب الموسوعيون والمتواصلون مع شبكات المعلومات ومراكز الامداد والمكاتب الخاصة والمطابخ الفكرية والسياسية يتخطفون القراء بالمغريات والمثيرات.
ولست أعرف ما إذا كان بإمكان رجل مثلي موزع الجسم متعدد الاهتمامات مع وهن الأنامل واشتغال الفكر ان يستجيب بما يكتب لمختلف الذوائق ولأنواع الرغبات، وهل بالامكان أن أتحسس متطلبات المشهد المعاصر وأدخل سباق البراعة في الامتاع والاستمالة والاقناع؟ أحسبني دون ذلك بكثير، وماذا علي لو جربت، فالحياة لم تستكمل ذاتها بالصدفة ولا بضربات الحظ، وإنما هي المغالبات والمحاولات، وقديما قيل: من جد وجد,, ومن زرع حصد .
تخلصت من كل الهواجس والمثبطات، وقررت أن أغامر خارج الزمن الأصلي، وانتابتني عوارض أخرى ليست بأقل من السوابق, تراءت لي الكلمة بكل خطورتها وجسامة مسؤوليتها وتذكرت حديث: ان الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في نار جهنم وتخوفت من الهوى المطاع والتعصب المتبع وخطيئة شاعر غزية الذي نصح ولم يُجب فلم يعتزل وإنما غوى، وخشيت الوقوع في شرنقة المناسبات والتزلف والمدح، المستدعي لحشو التراب, والكلمة ذات أبعاد:
الكلمة الجميلة الاخاذة بنصاعتها وايقاعها وشرف لفظها.
والكلمة الجليلة المهيبة بشرف معناها وعمق أدائها وشمول تناولها وأهمية موضوعها.
والكلمة الصادقة بكل ألقها النصائحية الصادعة بالحق بكل مرارتها وإيلامها، وتذكرت مقولة: لم يترك لي قول الحق صديقاً .
والكلمة المنافقة بكل تفسخها المداهنة المداجية المادحة الغاشة بكل عفنها، ومن غش الأمة فليس منها.
والكلمة المخطئة ابتداء والخاطئة المصرة بكل عنادها.
والكلمة المستفزة بكل صفاقتها الكلمة الفضائحية.
كلمات بعدد ما يسطره القلم، وتذكرت الكُتَّاب الذين أحصاهم الدكتور أسامة عبدالرحمن في كتيبه المثير والمفيد غثاء الكتابة وكتاب الغثاء حيث ذكر منهم المرتزق والمتسلق والمتنصل والمفتئت واللاعب والسفيه والمتطفل، وفاته ذكر المتهتك والمنحرف والضال المضل الداعي على ابواب جهنم والشاك والمرتاب والسمسار والتبعي والمتنافخ، وخفت من ان اصنف على غير ما أنا عليه، مما قد يؤدي إلى تصفية السمعة، وهي اخطر من تصفية الجسد، وإذا نفذ اللفظ من رقابة الأرض وتأويلاته، تلقفه رقيب عتيد عن اليمين وعن الشمال قعيد، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم، وحين يختار الكاتب طريق الصدق والنصيحة، فهل يثق بصواب ما يقول؟ وهل يتوفر على آليات الاجتهاد وشروطه ومشروعيته، وهل تتوفر له المعلومة الصادقة من مصدرها الحيادي؟ وما أكثر الناس ولو حرصت متوفرين على شروط الاجتهاد وآلياته؟ ثم هل يحسن التعامل مع القضايا، بحيث يأتي حديثه في الوقت المناسب، وبحيث يضيف ما ينقص الآخر، وبحيث يعرف ان الواقع والممكن شيء والمثالية والطموح شيء آخر، ثم كيف يصنف الاختلاف في وجهات النظر؟ وكيف يتصور الطرف الآخر نفسه عند النقد والمساءلة؟.
هناك اختلاف تضاد واختلاف تنوع، وهناك خيارات واسعة في التقديم والتأخير والتمرحل والانجاز الفوري والسرعة والاناة، وهناك خيار واحد لا يحتمل إلا قولا واحداً، ومع هذه المستويات المفروضة أو المفترضة فقد لا يروق للكاتب خيار المؤسسات الحكومية في مختلف القطاعات، وإن كان خيارها الاصوب، او كان هو الممكن، إذ لا بديل مستطاع، إما لمحدودية القدرة على التفاعل من المتلقي، أو لمحدودية القدرة عند الفاعل ذاته, ومراعاة الاحوال مطلب اسلامي قبل ان يكون مقتضى حضاريا، ودخول الكاتب في الجدل والمرافعات قد يبلبل الأفكار ويعوق المسيرة، والمؤسسة حين تواجه بالنقد ينتابها التردد، وقد يستفحل الأمر فيحملها اللغط على التراجع، فيكون الكاتب سببا في تعطيل المسيرة، وهو الأشد حرصا على بلوغ الغاية، من هنا تكون الكلمة قولاً ثقيلاً مرهقاً، وكم من الكتّاب من تجتالهم المثاليات فينفصلون عن الواقع، ثم يظلون في تنازع مستمر، تكون الآراء بوادر، ولكنها مع العناد تكون هوى متبعاً يبلغ مرحلة التأليه، وينتقل الأطراف من الحوار إلى الجدل ومن الجدل إلى السجال ومن البحث عن الحق إلى البحث عن الانتصار والوقيعة بالخصم، وقد يتجاوز المتجادلون قانون اللعبة وشروطها ليصلوا إلى ذروة التنازع والتنابز بالالقاب، ثم يكون الفشل وذهاب الريح، وذلك من الفسوق بعد الإيمان، والشيطان تعهد بأن يقعد لعباد الله على الصراط المستقيم، ونفاذ النفس الأمارة والشيطان الماكر والهوى الذي يعمي ويصم يحوِّل الكلمة إلى دمار لا يقل عما تفعله أسلحة الدمار الشامل، وهل أضاع مثمنات الأمم إلا المجازفات المثالية التي تصل إلى حد المقامرة والفهلوة؟,؟
والكاتب حين تخط يمينه الرأي تلو الرأي والفكرة تلو الفكرة يسهم في بناء الوطن او هدمه، يقترف خطيئة أو يكسب إثماً وقد يوفق فيزداد أجراً، فكل فكر عبارة عن نسيج يتنامى مع الزمن، وكل نسيج له ناسج، والكاتب واحد ممن يسهمون في نسيج الافكار, ووحدة الأمة فكرياً لا تقل عن أهمية وحدتها إقليمياً, والدولة ممثلة بمؤسساتها تمارس عملية التنصت وقراءة هموم الناس من خلال الطرح الصحفي، وترقب فعلها على ضوء الأصداء وردود الفعل التي يتجاذبها الاعلام المقروء والمسموع والمشاهد، وترى نفسها في مرايا الآخرين مقعرة أو محدبة أو مسطحة، ولكل شكل مخادعته أو مصارحته.
من هنا كانت الكلمة خطيرة ومسؤولية، وليست مجرد إراقة أحبار على أوراق بيضاء، وليست سياحة استجمامية في أنهر الصحف، إنها صناعة للرأي العام وتوجيه متعمد له، وكم هو خطير حين يسهم الكاتب في تضليل الرأي العام وإفساد ذائقته وتدمير تصوره السليم للاشياء، والقلم صنوان السيف، قال أحد ملوك اليونان: أمر الدين والدنيا واقع تحت شيئين: سيف وقلم ، وقال أبو الفتح البستي:


إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم
وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة
مدى الدهر: إن الله أقسم بالقلم

والقلم مطية الفكر .
والكاتب المتحرج من الخطأ أو الاثم تنتابه حالات من الخوف والتردد حين يقترف خطيئة الكتابة، وكيف به حين يطرح رؤية تضر بمصالح الناس او حين يضع العصي في عجلات القافلة على الطريق المستقيم.
إن الأمة تشقى وتسعد بكتابها، والصحافة اليوم هي آية هذا الزمان حتى لقد قال الشاعر:


لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف

وتسمى صاحبة الجلالة، والسلطة الخامسة، والاعلام القوي المتمكن امبراطورية داخل الامبراطورية، يسقط العمالقة ويرفع الأقزام وينزل بالكبار من أبراجهم، ويقضي على آمال الطامحين، ويقطع الطريق على الانتهازيين، وقد يكون حلقة في سلسلة التآمر على مصالح الأمة, يدمر المنجزات ويهز الثوابت ويدنس المقدس ويشكك في اليقينيات, إنه عمار أو دمار، والذين يكتبون ولا يحملون تلك الهموم لا يقولون شيئا، ولا يفرضون أنفسهم على القراء، إن الكتابة إرباك وإثارة وتوتير وتساؤل ورقابة, وإذ لا تكون كذلك فإن متعاطيها لا يقولون شيئاً.

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved