| مقـالات
أمثلي تُقبل الأقوالُ فيه ومثلُك من يجوز لديه كِذبُ |
الكِذب (بكسر الكاف وسكون الذال) كالكَذِب (بفتح الكاف وكسر الذال)، كلاهما مصدر الفعل: كذَب يكذِبُ، أي أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع، وقيل: الإخبار عن الشيء بخلاف اعتقاد المتكلم، وهو في جميع الحالات نقيض الصدق.
وقد يأتي الكَذِب (بفتح الكاف وكسر الذال) بمعنى مكذوب، فهو (مفعول)، وذلك كقوله تعالى في سورة يوسف (18) (وجاءوا على قميصه بدمٍ كذِبٍ) أي مكذوب.
وتأتي (كذَب) بمعنى وجب، ومن ذلك حديث عمر رضي الله عنه: (كذَب عليكم الحجُّ، كذب عليكم العمرة، كذَبَ عليكم الجهادُ، ثلاثة أسفار كذبن عليكم) أي وجب عليكم كذا,.
وتكاذيب العرب: أساطيرها وخرافاتها، أما الأكذاب فجمعٌ للكِذب (بكسر فسكون) على غير قياس، لأنه مصدر، والمصادر لا تجمع قياساً، والأولى اعتبارها جمعاً لكذبة ، كلِعبة وألعاب، وفِكرة وأفكار، وحِقبة وأحقاب.
وكَذبة (بفتح فسكون) اسم مرة من الكذب، ومنها كَذبة أبريل (هذا الشهر الإفرنجي الذي نحن فيه الآن)، وهي أكذوبة يتعابث بعض الناس بها في أول هذا الشهر من كل سنة، قال في المعجم الوسيط: إن هذا الاستعمال محدث, وقال: ويقال لها: سمكة أبريل أيضا، وهي من الأكذاب الحمارية، سواء من حيث موردها أم من حيث استعمالها.
أما من حيث موردها فقد ذكروا أن أحد الفرنسيين إبّان تقليعات الثورة الفرنسية، أعلن عن مزاد كبير لبيع مجموعات من الحمير، النادرة والمتميزة، وذلك في أحد الميادين العامة بباريس، وحدّد الموعد بغرة شهر أبريل, ولما حلّ الموعد تجمّع الناس من كل حدب وصوب، واحتشدوا مبكرين بالميدان المذكور، وعاشوا انتظاراً طويلاً مملاً، وتبادلوا أطراف الحديث حول التجمع ودواعيه ونتائجه، وفجأة طلع عليهم أحدهم من إحدى العمائر الشاهقة بمكبّر الصوت (المُجهر)، مرحّباً بهم شاكراً تلبيتهم الدعوة، ومهنئاً بهذا الاجتماع الحاشد من أجل الحمير، ليعلمهم بأنه لا حمير، ولا شراء ولا بيع، وأنها كَذبة بيضاء، ولتسموها - إن شئتم - كَذبة أبريل، فعرُفت منذ ذلك الحين بهذا الاسم، وانتقلت إلينا فيما انتقل إلينا من تفاهات غربية، علماً بأن فاعلها الأول لم يعرفه أحد، إذ إنه اختفى بسرعة عن الأنظار، ومايزال التعابث بهذه الكَذبة قائماً بيننا إلى اليوم، وقد كنت ذات يوم من ضحاياها، وأجدها فرصة سانحة لأندّد بها، وبمخترعها الحمائري ومقلديه.
وأما حمارية استعمال هذه الكذبة فتأتي من جهة تأثيرها على المكذوب عليه، فربما كانت أشد من عضّة الحمار، وأقوى أثراً من ركلاته ورفساته,! ففي اعتقادي أنها كذبة في غاية الوحشية والهمجية، وإن تمخضت عن عقول تزعم أنها متمدينة، فليتنا نعلم أن التمدن والتحضر إنما يكون بوسائل أخرى غير العبث بعباد الله وترويع الآمنين، فذلك شيء، تحرّمه الشريعة الإسلامية وتأباه حتى على الحيوان, فقد جعل الأوروبيون الكذب أنواعا، فمنه الأبيض، والأسود، والرمادي، فالأبيض الذي لايتسبب في ضياع حقوق الآخرين والإضرار بهم بطريقة مباشرة, والأسود ما كان عكس ذلك, والرمادي يكون فيما بين ذلك، حيث يرتكب لمجرد الضحك والإضحاك، ومنه كذبة أبريل، التي صارت تضرب مثلاً لكل كذب لا أصل له.
والكذب في الإسلام كله أسود، وإن اختلفت درجاته باختلاف درجات ضرره، ولم تميز الشريعة الإسلامية الإخبار بغير الواقع إلا في أمور يتحقق من ورائها الخير، وذلك في مجال إصلاح ذات البين، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، وقال: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب, فهذه الأنواع الثلاثة كذب من حيث يظنه السامع، وصدق من حيث يقوله القائل, وإنما كان الكذب رذيلة محرّمة لما فيه من فساد في طوية الكاذب، والإضرار بالمكذوب عليه.
* ومن الأكذاب الحمارية ايضاً أن صديقين كانا مسافرين على حمار، وفي طريقهما مرض الحمار ومات، فقاما بدفنه، وحارا في أمرهما، فقد كانا يستعملانه للركوب ونقل أمتعتهما، وكانا ينويان الاشتغال عليه بالبلد الذي يقصدانه، فأقاما فترة يفكران، ثم عنّت لهما فكرة غريبة سرعان ما نهضا إلى تنفيذها، تتلخص في إقامة (ضريح) على قبر الحمار، بدعوى أنه قبر رجل صالح، ووليّ من أولياء الله، وإشاعة أن زيارته تجلب البركة، ودفع الضرّ، إلى غير ذلك من الأكاذيب، وصدّقهم العامة، وأقبلوا عليهم دون حدود وقسما العمل بينهما على أن يمثّل أكبرهما دور الشيخ الوسيط، ويقوم أصغرهما باستقبال الزوار، واستعلام أحوالهم، ومن ثم تسريبها الى الشيخ للإفادة منها في مفاجأة الزائرين والتأثير عليهم، ومرت الأيام على هذا النحو، وأفادا ثروة كبيرة، وملأ الطمع نفسيهما، واتهم أحدهما الآخر بأخذ حصة أكثر من الدخل, فقال المتهم مطمئنا صاحبه: أحلف لك برأس سيدي (حمران) - يعني الحمار المدفون أنني صادق في تعاملي معك.
فقال الآخر: على مين، (نحن دافنينُو سَوَاء)؟ أي أننا نعرف جميعا أن لا وليّ أساساً، وأنه لايوجد تحت القبة غير عظام الحمار, وصار حالهم مثلاً يضرب لكل حالات الكشف عن الدجل وردّه، وبخاصة بين المشتركين في الشأن الواحد.
ونحن لا نلوم الحمير على كونها في مثالينا السابقين كانت وسيلة لتنفيذ الكذب، إذ لا لوم على الحمير، فهي غير عاقلة، وإنما اللوم على أصحاب الحمير والمتحيمرين!
|
|
|
|
|