| شرفات
* كان جون ابن الأعوام التسعة أكثر اخوته الاربعة شبهاً بالأب,, إنه صبي عنيد ومشاكس، دائم الشجار مع اخوته ومع الآخرين, يجمع الى طبيعته الثائرة الصلبة حساً مرهفاً وعاطفة مشبوبة، تتبدل عواطفه من حال الى نقيضه في دقائق معدودة.
وماهي إلا سنوات قليلة ولحقت الأم متأثرة بمرض السل بالاب الراحل، ليصبح الأطفال الاربعة ايتاماً في مهب الريح, أثناء ذلك كان جون كيتس يتعلم في مدرسة مستر كلارك، فأصيب بالاكتئاب والأسى وقبع تحت مكتب استاذه أياماً عديدة لايكلم أحداً, غاضت بداخله روح المشاكسة فمال الى الصمت والدراسة فحسب، إلى ان أُرسل لدراسة الطب دون رغبة حقيقية منه، حيث كان مولعاً بالأدب وبعد خمس سنوات عاد للعمل كطبيب في أحد مستشفيات لندن, لكنه لم يتأقلم مع عمله كطبيب، اذ تسلطت عليه فكرة غريبة فحواها الخوف الدائم من أن يُخطىء في أثناء إحدى العمليات فيزهق ارواحاً بريئة بغير حق! رغم انه لم يفشل في اية عملية اجراها من قبل,, ربما كان لحسه المرهف أكبر الأثر في تجسيم هذا الخوف, وكانت النتيجة ان اتخذ قراراً بمشرط الجراح وأنهى عمله كطبيب ليقف في مواجهة الحياة مفلساً لا يعرف ماذا سسيفعل؟ خاصة ان ديوانه الأول فشل فشلاً ذريعاً ولم يحظ بأي نوع من الاهتمام.
ليس أمامه مأوى إلا الشعر وصديقه الوفي، السياسي والأديب لي هانت، الذي سُجن بسبب حملاته السياسية العنيفة، وتجرأ كيست الشاعر الشاب وهنأه على الخروج من السجن، كما سبق له وأهدى ديوانه الأول إليه, ليفاجأ دون ان يدري بأنه عُرضة لسهام الخصوم السياسيين لهانت.
فثمة مقالان عنيفان في صحيفتي الكورترلي وبلاكوود ضد قصيدته الأخيرة, كأنها حملة مدبرة لإعلان موته الأدبي مبكراً,, بل ان شيلي وبايرون قطعا بأن هذين المقالين المشئومين كانا سبباً مباشراً في موته الفاجع.
حيث ان كيتس لم يعش بعدهما سوى فترة قصيرة، اصيب خلالها بالتهاب في الحلق ثم ما لبثت حالته الصحية ان تداعت فجأة.
وهناك من يرد موته المبكر الى حبه المشئوم لفاني براون، وهذا ما يؤكده لورد هاتون قائلاً بان قوة العاطفة في حب كيتس كانت من عوامل فنائه وسيره الى الموت المبكر بخطى سريعة,, وكيتس نفسه يقول: انني لأبغض رضا الجمهور وحب المرأة على السواء, فكلاهما كالمادة اللزجة تحول دون استقلال الجناحين.
هذا الحب العميق,, هذا البغض لقيد الحب,, كلاهما شكل جزءاً من مأساة الرحيل المبكر، بالاضافة الى القتل المعنوي الذي مارسه النقاد ضده!! لدرجة أنه وهو عائد من البيت بصحبة صديقه براون ذات ليلة وجد نفسه يسعل سعالاً غريباً، وأحس بحمى خفيفة تنتابه, وما ان استلقى على السرير حتى طفح الدم من فمه، وحملق في البقع القرمزية بخبرة طبيب سابق وشاعر مرهف قائلاً: انني اعرف لون هذا الدم,, انه دم الشريان , وعم سكون قاتل رهيب قطعه كيتس بصوت ساخر ومر قائلاً لصديقه براون: انظر الى يدي إنها يد رجل في الخمسين.
لقد كانت أعصابه ثائرة تُجسم له صنوف الشكوك والوساوس وتدفعه الى أن يسأل نفسه غير انقطاع عما اذا كانت فاني براون ثابتة العهد له رغم اعتلاله وبؤسه!! ولهذا ارسل اليها قائلاً: يعلم الله وحده هل قُدر لي ان اذوق معك السعادة أو لا,, ولكني على كل حال أعلم شيئاً بعينه، هو أنني اعدها سعادة غير قليلة أن أكون قد احببتك الى هذا المدى .
حالة من الوحدة والرثاء للنفس مع استفحال الداء اللعين الذي ورثه عن أمه دون ان يدري, واستقر رأي الاصدقاء على ان يذهب الى ايطاليا في رحلة طويلة للعلاج والاستجمام، وتطوع الرسام سيفرن بان يرافقه في تلك الرحلة الى المجهول.
وفي أكتوبر 1820م وصل الصديقان الى نابولي، وتضاعفت آلام كيتس بفعل السفر، بجانب متاعب احتجازه في الحجر الصحي عشرة أيام,, وبدلاً من ان يفكر في مرضه كان يتذكر حبيبته البعيدة فاني براون، ويقول لصديقه: ان اعتقادي المتزايد بأني لن أراها بعد الآن سينتهي بقتلي .
انه يدرك تماماً ان الموت قادم وانها رحلة الى النهاية, ومرة أخرى يرحل به سيفرن الى أحد الأطباء المشهورين في روما.
ويسكن جون كيتس في العاصمة الإيطالية في ميدان اسبانيا، ليلفظ انفاسه من وراء إحدى النوافذ، في هذا المكان بعد اسابيع معدودة, حتى الناس في الشارع كانت تفر من جون كيتس ظناً منها بأنه مصاب بمرض وبائي سريع الانتشار, وأبداً لم يفكر احد للحظة ان هذا الشاب المريض اعظم شاعر انجليزي في عصره, الجميع يحكم عليه بالموت من قبل ان يموت، لذلك بعث برسالة الى صديقه براون يقول فيها: لقد أصبحت أحس احساساً لا يفارقني بأن حياتي الحقة قد انقضت وأنني أعيش من وراء القبر .
وفي ليلة من ليالي فبراير عام 1821م يبدأ العد التنازلي، انه لا يستطيع الهضم على الإطلاق، وأحياناً يطلب الطعام بنهم غريب, وصديقه سيفرن الذي انفق آخر جنيه كان معه، راح ينظر الى الجسد الهزيل وهو يبصق دماً، وعلامات الموت على وجهه تزداد ساعة بعد ساعة, تُرى هل قتلك الحب يا كيتس؟ أم النقاد؟ أم المرض اللعين؟ وفجأة سمع كيتس يناديه لآخر مرة: سيفرن,, ارفعني,, انني أموت,, سأموت بسهولة,, لا تفزع,, تجلد واشكر الله على ان الساعة قد أتت فأغمض سيفرن جفنيه الى الأبد وهو يتذكر وصيته الوحيدة، وكانت مجرد رغبة بسيطة,, ان ينقش على قبره هذه العبارة: هنا يرقد انسان كتب اسمه على صفحة الماء .
|
|
|
|
|