ليس استطرادا للقول ان التقدم العلمي ووسائل التكنولوجيا قد احرزت تطورا هائلا، خلال العقد الاخير، في جميع المجالات، ولا شك ان أخطر واهم هذه المجالات هي المتعلقة بأسرار الحياة وتكوّن الإنسان, والآن اصبح هناك علم متخصص في دراسة وبنى تخلّق ونمو الجنين داخل الرحم، وبالتالي تشخيص أي عيوب او مضاعفات قد تصيبه، والعمل على علاجها, ويعرف هذا العلم بطب الأجنة الذي أصبح الآن أحد التخصصات الدقيقة المتفرعة من تخصص طب النساء والتوليد.
ويرجع ظهور طب الأجنة كفرع من فروع تخصص طب النساء والتوليد الى عاملين أساسيين: أولهما التقدم التكنولوجي المطرد في أجهزة الكشف على الجنين داخل الرحم، وهذه تشمل أجهزة الموجات فوق الصوتية بأنواعها المختلفة، فالآن يمكن على يد متخصص بطب الأجنة فحص الجنين والاطمئنان على تكوينه,, بل وأخذ عينات من خلايا جنينية لاجراء التحليلات اللازمة، وذلك منذ الشهور وأحيانا الأسابيع الأولى للحمل.
وهناك حالات الحمل الحرجة التي تحتاج لاستشارة او علاج قبل حدوث الحمل مثل وجود مرض السكر وبعض الالتهابات الجرثومية الحادة او نقص الفيتامينات او وجود أمراض وراثية او حدوث مضاعفات سابقة في الحمل,, وتلك الحالات لا شك انها تحتاج لرعاية ومتابعة في مراكز متخصصة بعلم الأجنة, ولقد اصبح من الممكن الآن تشخيص كثير من الأمراض والعيوب الخلقية في مرحلة مبكرة، إما عن طريق أجهزة الموجات فوق الصوتية الحديثة، او اجراء تحليل كيميائي، او تحليل للصفات الوراثية او الجينات في خلايا الجنين, والسؤال الذي يطرح نفسه بهذا الخصوص: كيف يمكن الحصول على خلايا من الجنين؟
بعد ان يتم تلقيح البويضة مباشرة تبدأ عملية انقسام متوالية حتى تتكون كتلة من خلايا هي النطفة يشكل جزء منها الجنين، والجزء الآخر، وهو الأكبر يكون المشيمة التي تلتصق بجدار الرحم وتظل متصلة بالجنين عن طريق الحبل السري لتزويده بما يحتاجه من غذاء, والجنين بدوره ينمو ويتكون داخل كيس مائي ليضمن حرية حركته وحمايته, وهكذا فإن الخلايا المكونة للمشيمة هي في الأصل من خلايا الجنين, ولذلك فإنه للحصول على خلايا جنينية يكفي اخذ عينة من المشيمة، او أخذ بعض من سائل الأمينوس وهو السائل المحيط بالجنين, وتعرف العملية الأولى بcvs) والثانية ب(Amniocentesi) ولكل منهما مزاياها ومخاطرها, وهي في الواقع بسيطة، فمثلا لا تتعدى نسبة حدوث اجهاض بسبب اجراء مثل هذه العمليات أكثر من 1 2 بالمائة إذا ما قام بها متخصص, ومع ذلك لا بد من وجود أسباب كافية لاجراء مثل هذه الفحوص مثل تقدم عمر الأم، او وجود أمراض وراثية بالعائلة، او حدوث تشوهات في حالات حمل سابقة وغيرها, ولكن ما فائدة تشخيص العيوب الخلقية قبل الولادة,, وهل هناك علاج لها؟
في واقع الأمر إن تشخيص حالة الجنين قبل الولادة يعطي فرصة كبيرة للعلاج, اما أنواع العلاج فهي إما داخل الرحم او خارجه,, أي مباشرة بعد الولادة,, فيمكن إعطاء عقاقير طبية معينة للأم ومتابعة تأثيرها على الجنين، مثل حالات اضطراب القلب او زيادة كمية الماء المحيطة بالجنين, اما أكبر نجاح فقد حدث في عمليات حالات اختلاف فصائل الدم بين الأم والجنين، حيث تتكون في الأم أجسام مضادة من شأنها، إذا وصلت للجنين بكميات كبيرة، ان تؤدي الى تحلل كرات الدم الحمراء فيه مما ينتج عنه حدوث أنيميا حادة وهبوط في القلب.
ويمكن الآن علاج مثل تلك الحالات بنقل الدم الى الجنين مباشرة وهو داخل الرحم, وهناك أمثلة كثيرة على ما يمكن عمله لعلاج الجنين قبل الولادة طبيا,, اما جراحيا فإن طريقه ما زال طويلا، ولو ان هناك بعض الحالات الخاصة التي يكون فيها العلاج الجراحي للجنين وهو داخل الرحم الحل الوحيد,, ولكن نسبة النجاح هنا ضئيلة.
وبصفة عامة فإن تشخيص حالة الجنين قبل الولادة والعيوب الخلقية داخل الرحم يساعدان كثيرا على تحديد توقيت وطريقة ومكان الولادة, فإذا كان الجنين يعاني من تشوه في القلب او الجهاز البولي مثلا، فإن الولادة يجب ان تتم ليس فقط في وقت بل وفي مكان معين، حيث تتوفر الخبرة اللازمة لتقديم اقصى درجات العناية للمولود على أيدي الاخصائيين في هذا المجال.
وغني عن القول ان بعض التشوهات الخلقية التي ينجم عنها ضعف في نمو وتكوين الجنين تحدث غالبا بسبب ما يصل الى الجنين من مواد سامة مثل غاز أول أوكسيد الكربون والنيكوتين الموجود بالسجائر والتي تؤثر على الخلايا تأثيرا سلبيا, وهناك أيضا بعض الأمراض التي يمكن الاهتمام بها قبل حدوث الحمل مثل السكر، وذلك له أهمية خاصة لأن الجنين او النطفة في مراحلها الأولى تكون مثل البذرة المزروعة، تتغذى على ما تروى به، دون قدرة على الرفض او القبول، ولذلك لأن ارتفاع السكر في دم الأم يؤثر على تكوين خلايا الجنين، وقد يؤدي الى حدوث تشوهات إما في الجنين ككل او في عضو من أعضائه، وفي موضع تكون الجنين قد يكون للالتهابات الجرثومية مثل الحمى الالمانية او التكسوبلازما التي قد تصيب الأم دور مؤثر في حدوث التشوهات, والآن يوجد في علم طب الأجنة بعض الوسائل لمعرفة نوعية الاصابة, واحتمال تأثر الجنين، وإمكانية علاجه، وذلك بالنسبة لبعض، وليس كل الاصابات الجرثومية.
ولا شك ان كل زوجين يريدان الاطمئنان على ابنائهما واعطائهما أكبر فرصة للتكون والنمو الصحيح منذ اللحظة الأولى, وفي حالات الحمل العادية غير المضاعفة اصبح من الضروري التأكد من سلامة الحمل وسلامة الجنين بعمل صورة بالموجات فوق الصوتية في المراحل الأولى، على ان يقوم بها مركز او طبيب أمراض نساء وتوليد متخصص في طب الأجنة، فيمكنه فحص الجنين بدقة في مرحلة الشهور الثلاثة او الأربعة الأولى من الحمل، ثم بعد ذلك على مرات متفرقة في الحمل، لمتابعة طبيعة النمو كما تستدعي الحاجة.
مترجمة عن مجلة طبيب العائلة