الحمد لله الدائم الباقي، الحي القيوم الذي لا يموت، سبحانه تفرد بالبقاء وحده (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وأشهد ان لا إله إلا الله خلق الانسان وأوجده في هذه الحياة الدنيا لأجل محدود ووقت معلوم (ولكل أمة أجل فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وأشهد ان محمدا عبده ورسوله خاطبه ربه بقوله (إنك ميت وإنهم ميتون) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين استعدوا للموت وعملوا لما بعده حيث السؤال والحساب والثواب والعقاب.
اما بعد,.
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا انه ما من مخلوق إلا وقد كتب الله عليه الفناء، فالانسان يوجد في هذه الدنيا بغير اختياره، ويخرج منها بغير طوعه بالموت على أي سبب من الاسباب فهو حتم مقضى، لا يتمارى في هذا اثنان، ولا يختصم فيه خصمان وانما المقصود التنبيه على امرين:
الأمر الاول: تذكر الموت في هذه الدنيا، فانه يحد العمل لدار الدنيا ويقلل من التعلق بها ويقصر الامل فيها، فلا يعطيها الانسان اقصى قوته وغاية امله لعلمه بانتهائها، أو موافاته اجله قبل نهايتها، قال صلى الله عليه وسلم اكثروا من ذكر هادم اللذات، فانه يذكر الآخرة .
الأمر الثاني: ما عسى ان يلقاه الانسان بعد موته فانه ثمرة حياته في الدنيا ومقتطفات اعماله، ففي الدنيا عمل ولا حساب وزرع ولا حصاد، وغرس ولا قطاف وفي الآخرة حساب ولا عمل، وحصاد لما زرع وقطاف لما غرس، ففي ذكر الموت وما بعده راحة للمطيعين ووحشة للعاصين وتسلية للدعاة المخلصين، حتى لايحزنوا إذ لم يجب المدعون، قال تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) فكل ذي روح لابد ان يلاقي مصرعه طال به الزمن أو قصر.
قال الفخر الرازي على الآية الكريمة: اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول والمبالغة في ازالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين:
أحدهما: ان عاقبة الكل الموت، وهذه الهموم والاحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه.
الثاني: ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء، وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في ازالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء.
وقال ابن كثير: يخبر تعالى اخبارا عاما يعم جميع الخليقة بان كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى: (كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) فهو وحده الذي لا يموت والجن والانس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخرا كما كان أولا.
فهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فانه لا يبقى احد على وجه الارض حتى يموت فاذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية اقام الله القيامة وجازى الخلائق باعمالها جليلها وحقيرها وكثيرها وكبيرها وصغيرها، فلا يظلم احد مثقال ذرة ولهذا قال تعالى: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب، فلم تكن النعمة والبلية في الدنيا أجرا وجزاء لانها عرضة للفناء (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) أي ظفر بما يرجو ويخاف، وفي الحديث : من احب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد ان لا إله إلا الله محمد رسول الله ويؤتي الناس ما يحب ان يؤتى اليه وفي حديث آخر موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرؤوا ان شئتم (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) وقوله : (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) أي تغر الانسان وتخدعه فيغتر بطول البقاء، وهي فانية.
والغرور بفتح الغين: الشيطان يغر الناس بالتمني والمواعيد الكاذبة، قال ابن غرمة، الغرور: ما رأيت ظاهرا تحبه وفيه باطن تكرهه أو تجهله، والشيطان مغرور لانه يحمل على مثاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء قال ومن هذا بيع الغرور وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول، فالدنيا لها ظاهر ولها باطن فظاهرها متاع السرور ونعم المتاع للمطيعين وباطنها مطية الشرور، وبئس المطية للعاصين الذين يغترون بمظاهرها وزخارفها ويغترون بملذاتها وطيباتها ويغفلون عما من اجله خلقت وخلق اهلها فيسرون بها، ويظنون انها باقية، فيصوبونها انظارهم وافكارهم ووجهاتهم وما دروا انها لهم طاوية (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) فاتقوا الله أيها المسلمون واستعدوا للموت دائما وتزودا فان خير الزاد التقوى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني واياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
* عضو هيئة كبار العلماء