كانت تتناهى اليها أصواتهن المتفاوتة الارتفاع والمتحدثة في خصب في آن واحد وهي تقف بجوار باب المقلط غرفتها الاثيرة لديها التي ضمت بين جنباتها الكثير من الاسرار والحكايا تستعد للدخول لكنها تحجم عن ذلك في اللحظة الاخيرة علها تسمع شيئا ما لا تعلم ما هو، لكنها تتخيل دوما انها ستلتقط كلمة او اثنتين عنها او عن غيرها بغير الخير طبعا، فقد اعتادت ان تذيع اخبارها الرئيسية باكرا فتذكر فلانة وفلانة بغير الخير دون شك، فلم تكن تطيق ان تمتدح احداً او تنصفه فمن الانصاف كما ترى ان تذكر عيوبه ومساوئه ثم تضخمها، وبعد ذلك تنسى او تتناسى واحيانا لا يتسع الوقت لذكر المحاسن فتنتقل من المهم للأهم فوقتها ضيق ولا يسمح لها بإيفاء كل ذي حق حقه.
واثناء وقفتها تلك كانت تمسك بصحن دائري كبير بيدين منفرجتين وكان حملا ثقيلا لكنها تكبح جماح نفسها وتظل تقاوم ببسالة وهي تقرب اذنها اليمنى الى الباب تحاول ان تلتقط صوتا او حديثا محددا لكنها تفشل في ذلك في كل مرة فقد كانت هي دوما المتحدثة الوحيدة في جميع جلساتهن الشبه يومية ومحط انظار الجميع حين تتكلم ينصتن جميعهن وحين تغيب يتحدثن جميعهن ايضا، وحين غابت عنهن لإحضار الشاهي، وما يلزمه في مثل هذه الجلسة الضحوية الباكرة اخذت كل واحدة منهن تحاول اظهار مواهبها في الحديث دون ان تستمع لمن بجوارها فترتفع اصواتهن فجأة في آن واحد تقريبا ثم تخفت وتتلاشى لتعود للارتفاع مرة اخرى كصوت معلق على مباراة للمنتخب، وما زالت بجوار الباب تنظر للصحن بين يديها بما يحويه من كراث ازداد اخضرارا وإثارة للشهية بعد غسلها السريع له خشية ان يفوتها خبر ما وبعض الخبز المكشوف دون غطاء تستره عن شمس الخجلى والتي تطاردها ببطء وعن الذباب المتذبذب الشخصية غير المستقر على حالة ومكان محدد مثلها، فهو مثلها لا يطيق البقاء في مكان واحد وما زالت تسترق السمع في هدوء مغاير لما يحدث داخل مجلس جاراتها اللاتي تندي جلساتهن الضحوية بما لذ وطاب من القصص والاقاويل وربما الإشاعات والاكاذيب واللاتي لم يجدن الآن من يقودهن ويوحد صفوفهن ويتسحوذ على اهتمامهن وكلما همت بالدخول سمعت صوتا آخر يثيرها ويعيدها للانصات مرة اخرى, وبعد ان هدأن او يقمن فلم يكن من عاداتهن ان يتحدثن كثيرا لأن منيرة هي ملح الحلبة,, كما يقلن وهي المتحدث الرسمي الاول والاخير ايضا عقلتها وتوكلت على الله، وحين دخلت عليهن مرحبة بهن تناوشتها اصواتهن مستبشرة بقدومها، وضعت صحنها الكبير بين ايديهن وهي تبتسم بفخر وثقة وترحب بهن.
تفضلن,, حياكن الله,, اقلطن.
قاطعتها اصواتهن وتداخلت مع صوتها المرحب بهن:
تعالي يا ام محمد نريدك انت.
تعالي حدثينا عن آخر اخبار ام صالح.
عطينا الخبر اليقين عن زوجة ولدها وما فعلته بها.
وتتوالى النداءات والمظاهرات مطالبة منيرة ببدء الشدو والتغريد، وبعد مقدمة طويلة من الصمت والتفكير بدأت الست منيرة نشرتها الاخبارية دون ذكر لمصادر اخبارها او حتى مجرد اشارة لها,, كانت تنظر اليهن وهن يستمعن لها بإنصات وايديهن تمتد الى الصحن ببطء ثم تقف في منتصف المسافة وبعد ان تفيق احداهن من استغراقها في الانصات تمسك ببضعة حبات من الكراث تلوح بها في الهواء ثم تثنيها من منتصفها بسرعة ثم تتوالى الثنيات على الكراث حتى يستسلم بين يديها فتحشره داخل قطعة من الخبز وتدسه بقسوة بين اسنانها,, وقد تخطىء احداهن فتمسك بقدح الشاي بدلا من الكراث بينما ام محمد كما يدعونها احتراما وتقديرا لسنها ومنيرة، كما تحب ان تسمي نفسها اثباتا وتقليلا لسنها تزداد خيلاء وغرورا,, وكذبا!! وحين يشتد الحماس وتلمح الاعين حولها في شوق للمزيد تتوقف لتحتسي قدحا من الشاي الذي كان قد برد منذ مدة طويلة فتمسكه لتصب لها قدحا آخر وهي تقرر بثقة وحكمة.
ما يقعد الرأس الا الشاي الثقيل الساخن.
وتعود لتكمل نشرة اخبارها التي طالت ثم تقلب لهن جريدتها اليومية المتنقلة على صفحة اخرى ويبرد قدحها الثاني,, فالثالث وهي تسكبه لتصب لها قدحا آخر,, وآخر.
وحين ترفع رأسها لتعدل من وضع شيلتها المنخل الطويلة ترمق ساعة الحائط القديمة التي تتصدر حائط الغرفة فتنقلب ثقتها وخيلاؤها إلى خوف وحذر فقدادركها الوقت ككل يوم، ولم يعد هناك متسع من الوقت لتعد غداء أبي محمد فتحاول ايقاظهن من سباتهن منهية حديثها بعرضها عليهن آخر بضائعها ومقدار الخصم فيها,, وبعد رحيلهن تجري لتخلع شيلتها وتلقي بها على اقرب مكان وتهرول لتعد غداء سريعا لزوجها فلم يعد بإمكانها غير ذلك خاصة ان ابناءها قد اعتادوا على ذهابهم للنوم بعد عودتهم من مدارسهم دون محاولة محادثتها فهي دوما مشغولة وحين عاد زوجها وقفت كما هي دوما امامه تستمع له بندم وهي تحاول تهدئته وعدم اثارة المزيد من غضبه بأعذارها الواهية المكررة.
اليوم سبروا على جاراتي.
لكنهن كل يوم في تيارات لا تنقطع ولنا كل يوم لا أجد غداء.
تأخروا اليوم لأن ام صالح وزوجة ابنها متخاصمان.
وهل اصلحت بينهما؟
لا,, لكن كانت ام فهد هنا.
وهي هنا بالامس وقبل الامس.
وتمالكت نفسها قبل ان تخبره بعذرها الآخر فقد كان آخر اعذارها الذي قالته بالامس القريب ولم تعد تملك سوى وعودها القديمة الجديدة التي تقطعها على نفسها كل يوم دون ان تفي بواحد منها,, وبعد ان هدأت العاصفة وذهب زوجها لينام مرهقا من عناء يومه ندمت على تسرعها باعطائها الوعود لزوجها بأن تنهي جلساتها اليومية بينما هي تبحث عن شلتها استعدادا لزيارة احدى جاراتها خاصة لتتزود باخبار جديدة كجلسة الغد.
مها الزبيري
** تجيد الصديقة مها الزبيري التقاط الاحداث اليومية العابرة التي تمثل جزءا مهما في حياة كثير من الناس وتعيد صياغة هذه الاحداث بشكل قصصي متفرد في خصوصيته!
وهذه القصة تلتقط مشهد جلسة الظهيرة لبعض النسوة لتبنى عليها كثير من الاحداث والقصص التي تدور في هذه الجلسة الغريبة!
والاجمل في هذه القصة هو تصويرها الدقيق لجلسة الظهيرة,, لمن لا يعرف هذه الجلسة,, فهي تقدم مشاهد سينمائية سريعة وموجزة,, حتى تستطيع ان تتأقلم وتعيش في هذه البيئة!
والاهم في قصص الصديقة المتميزة مها هو بحثها الدائم عن خصوصية تستلهمها من قراءة الحدث المحلي اليومي بشكل آخر واستثماره في قصة مثيرة للدهشة رغم معرفة لاحداث القصة مسبقا!