في هذه الايام من كل عام يتذكر الناس هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة ، ويتذكرون معها دروسا واحداثا مرتبطة بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبدعوة الحق التي رعاها في مكة وحملها معه الى المدينة.
يتذكر الناس مع العام الهجري اول يوم لدولة الرسول (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه).
لقد كان صلى الله عليه وسلم على الحق ويعرف ذلك معرفة اليقين بل وكان كفار مكة ومعاندو الدعوة منهم يعرفون حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدق رسالته وما جاء به، وباطل ماكانوا عليه من الشرك وعبادتهم لأوثان صنعوها بأنفسهم، ومع ذلك استماتوا في الدفاع عنها واراقوا دماءهم وانفقوا اموالهم في سبيل باطل يعرفون بطلانه، ولكنه التكبر والغطرسة والغرور وبطر الحق، وكم في زماننا هذا اليوم من يحمل باطلا ويدافع عنه بكل ما أوتي، مع معرفته الحقة بانه على باطل.
كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل قبل الهجرة ليجد ملجأ يؤويه واصحابه وما حملوه من دعوة، ورغم ضعفه صلى الله عليه وسلم وقلة الاسباب المادية الظاهرة كما يُرى للناس فلم يكن يقبل ما يحد الدعوة او يربطها بوطن او قوم معينين، فقد قبل بنو بكر بن وائل وكانوا في الاطراف الشمالية الشرقية للجزيرة العربية، أن يؤوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجيروه وينصروه ويحموه من كافة العرب، اما الفرس فقد اعتذروا وقالوا لاطاقة لنا بهم، فكان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم اذاً لستم اصحابي، فلم يكن ليقبل شرطاً يحد من دعوته ويقيد رسالة رب العالمين الى العالمين التي حملها وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ولذلك فان الانصار رضوان الله عليهم حينما بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة لم يشترطوا مثل تلك الشروط فاستجاب لهم وقبل الهجرة معهم الى المدينة بعد ان اعلنوا مناصرتهم التامة له، لقد كان صلى الله عليه وسلم يرنو ببصره لبناء دولة الاسلام ويخطط لها، على ما وعده الله سبحانه وتعالى من نصرته واظهار دعوته، فاخذ يخفي خبره عن قريش ويسعى للترتيب الدقيق للرحلة، ويتخذ كل الاسباب المادية لنجاح الرحلة واخفاء امرها، مع انه صلى الله عليه وسلم كان اكثر الناس توكلا على الله ومع ذلك فهو يؤكد لامته في ذلك، التوكل مع العمل في وقت واحد لاغنى لاحدهما عن الاخر، سعت قريش لمنع رسول الله من الخروج من مكة ورتبت أقوياءها لقتله عند داره، ولكن الله نجاه من شرهم ، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه ابو بكر الصديق رضوان الله عليه آخذين طريق المدينة، وارتعبت قريش وخرجت تطارد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت الجوائز لمن يأتي به حيا او ميتا، اجل انه الارهاب بعينه يستعمله اصحاب الباطل ضد حامل الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تسابق الفرسان للحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم وقد أريق دمه وسمح لهم بقتله او اسره، وهنا تحدث المعجزة، يصل سراقة بن مالك الجعشمي الى منطقة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشاهده ويحاول اللحاق به فتحدث المعجزة، تسيخ قدما فرس سراقة في الارض مرة واخرى، حتى يتأكد انه ممنوع بقدرة الله تعالى من اللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فيناديهما سراقة، ويطلب التحدث معهما، فيحادثه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويُسلم على ارجح الاراء، ويكتب له ابو بكر رضي الله عنه بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - اماناً مع ان الرسول هو الخائف والمطارد من قبل القوم ومع ذلك فان سراقة يطلب الامان لنفسه وبكتاب من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتحدث معجزة اخرى في تلك الساعة: حيث يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم سراقة بانه سيلبس سواري كسرى، ومن كسرى يا ترى؟؟ انه اعظم ملوك الارض وهذا المطارد الشريد الذي جعل زعماء مكة الجوائز لمن يأتي به حيا او ميتا يتحدث عن اعظم ملوك الارض وعن فتح المسلمين لدياره وغنيمتهم اعز ما يملك، ان الانسان ليعجز عن وصف الحادثة اذا علم زمن الحدث ووقت الضعف الظاهر للناس في تلك اللحظة ولكن صدق الله العظيم إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا .
كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً بين الحق والباطل، إعلاناً لقيام دولة الاسلام، لحاقاً بركب المؤمنين وتجميعاً لهم في المدينة كراهية للظلم وتحركاً مضاداً له وعدم خضوع للذلة والصغار والاهانة، كانت الهجرة فوق هذا كله إعلاناً لقيام دولة الحق، ووضعاً لبذرتها الاولى في المدينة والتي شبت عن الطوق بعد ذلك فبسطت سلطانها على مختلف اصقاع الارض ولاتزال الارض تتأثر باحداثها الى اليوم الحاضر، والى ان يرث الله الأرض ومن عليها، كانت تغليبا للمبدأ والدين على حب البلد والوطن وعلى القوم اذا كانوا من اتباع الكفر، وعلى كل المقاييس المادية في سبيل رضا الله سبحانه وتعالى ولاتُذكر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ويذكر معها صُحبة ابي بكر الصديق رضي الله عنه الذي ذكر الله له هذا الموقف في كتابه العزيز في قوله تعالى: ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتحزن إن الله معنا اجل لقد كان ابو بكر الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحلة وفي الغار ولم يصحبه من الامة غيره، وبهذا فان للصديق واجب المحبة على الامة برغم انف الكارهين لذلك، كان ايمانه رضي الله عنه يعدل ايمان الامة كما قال عنه صلى الله عليه وسلم ولذلك فقد ذهب الصديق رضي الله عنه ، بفضل الصحبة في الهجرة على سائر امة محمد صلى الله عليه وسلم
كانت الهجرة الى المدينة ، وكان في المدينة يهود، هاجروا اليها منذ زمن انتظارا لوصول الرسول صلى الله عليه وسلم اليها لان عندهم علماً من الكتاب مما اخبرهم به انبياؤهم: إن هذا المكان هو مهاجر النبي الأمي، وما ان رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عرفوه حق المعرفة يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم ارادوا ان يُصرفوا الامور كما يشاؤون واعترضوا على مشيئة الله احتجوا ألا يكون النبي منهم فتكبروا وعصوا وطغوا ولم يؤمنوا به رغم معرفتهم له، في المدينة كان الانصار الذين يؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة الذين كان لهم مواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ادركوا فيها الحق واتبعوه وانقادوا له، وهم القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، لا نقول لك، كما قالت اليهود لموسى اذهب انت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ولكن نقول لك اذهب انت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون كانت هذه روح الانصار منذ هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهم ولذلك اصبح الرسول في المدينة وعنده انصاره وفي الوقت نفسه عنده أعداؤه واعداء الله من اليهود الذين كانوا معوقا لقيام دعوته ودولته صلى الله عليه وسلم .
كان اول عمل قام به صلى الله عليه وسلم لبناء دولته هو بناء مسجد قباء، نعم بناء الدولة عند رسول الله بدأ ببناء المسجد انه التلازم الحقيقي بين الدين والدنيا، العمل للاخرة والعمل للدنيا صنوان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسة الأولى عنده وفي دولته تنطلق من المسجد، كان صلى الله عليه وسلم اماما في الصلاة وفي الوقت نفسه قائدا في السياسة لم يشهد تاريخ البشرية له مثيلا على الاطلاق بل وربى اعظم سياسيي وقواد العالم الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم الذين كونوا ونظموا اعظم دولة عرفها تاريخ البشرية على الاطلاق، كان فيها كل مظاهر التقدم والعدل والعطاء والمساواة، حتى ان غير المسلمين فضلوهم على بني جلدتهم واخوانهم في دينهم، ورضوا بحكم المسلمين واحبوه خلال تلك الفترة لما رأوه من رحمتهم وعدلهم حتى مع أعدائهم.
سعى الرسول صلى الله عليه وسلم منذ وصوله الى المدينة الى ايجاد التلاحم بين المهاجرين والانصار الى المواخاة التي كانت في اروع صورها,, اقوام يؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة، وقوم آخرون لا يسألون الناس الحافا.
كان عام الهجرة عاما خاصا لدى الامة له مكانته، ولذلك فان الصحابة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حينما ارادوا التميّز عن الغير اتخذوا تاريخ المسلمين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتميزوا بذلك عن سائر الامم، ومع الاسف الشديد فانك لاتكاد تجد ذكرا للتاريخ الهجري في العديد من بلاد العالم الإسلامي، في الوقت الذي نرى فيه دولة اسرائيل الناشئة تحيي تاريخها وتقويمها العبري وتفرضه في كل المؤسسات داخل دولتها بل وتحاول نشره على مستوى العالم، أليست امتنا هي الاولى بالتميز والمحافظة على ذلك التميز؟ إني لاعجب من التقليد مهما كانت الاعذار.
سعدت المدينة واهلها بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم واصبحت لها مكانتها بهذا التكريم وتميزت على مدن الارض بكونها عاصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تنورت بنور الاسلام وبوجوده صلى الله عليه وسلم فيها، اخذ المؤمنون يفدون من كل مكان تاركين الاهل والاوطان ليلحقوا بركب الايمان مهاجرين الى الله ورسوله، كان منهم الفقير والغني وذو الحاجة، كانوا كلهم محل عطف وعناية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يكلف المتعلم بتدريس الجاهل والرامي بتدريب غيره والفارس بتجهيز نفسه، والفقير بالعمل والاستغناء عن الآخرين والغني بالانفاق على اخوانه، وكان الجو كله ايماناً وعملاً! ايثاراً وعطاء! تقديماً وفداء!
كانت قريش تحس بالخطر من هذا المجتمع المؤمن الناشىء، ولذلك أخذت تدبر المكايد مع يهود ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، واخذت تمنع من في مكة من المؤمنين من الهجرة واللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا فان مغادرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة لم توقف اذى قريش له ولاصحابه، بل استمر الأذى من قريش لحامل الدعوة واتباعه من المؤمنين وهكذا الكفر والالحاد ودعاته لا يتركون الفئة المؤمنة وإن تركوهم, كما ان الفئة المؤمنة تعمل على إزالة الكفر واهله وان كانوا من اقرب الأقربين، ولذلك فالكل يتوجس من الآخر، وهكذا فان الصراع بين هاتين الطائفتين أزلي لا يتوقف، مهما كان الظاهر غير ذلك، ومهما تطور العالم وكثرت خيراته، أو مخترعاته او أدواته، ودروس الهجرة اكبر من ان تعرض في هذه العجالة لكنه الشعور بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وتذكر مواقفه يوم الهجرة تدفعنا للاستفادة منها باستمرار, نسأل الله ان يعز الاسلام واهله وان يجعلنا من حملة دعوة الحق هو وحده المستعان ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
* الأستاذ المشارك بكلية العلوم الاجتماعية بالرياض