اصبت بذهول من هول الخبر,, أبلغني به صديق من جدة صباحاً وكنت في ينبع مع الأسرة,,, استعلمت منه كأنني توهمت شيئاً من الخطأ!! ولكنه أكد الخبر,, نعم (أبو ياسر) قلت الله أكبر ردد مثلي الله أكبر الله أكبر,, تحركت إلى خارج غرفة النوم تائهاً على غير هدى,, كيف أطير إلى الرياض؟ اتصلت بصديق في ينبع هل أجد طائرة تقلع اليوم إلى الرياض؟ أجاب بالنفي وقد علم بالخبر,, اراد أن يهيىء السبل إلى الوصول في نفس اليوم فأتم الحجز إلى جدة في الخامسة مساءً,, وتعذر عليه الحجز المؤكد من جدة للرياض في التاسعة مساءً,, وعلم أحد الاخوة بالرياض,, فاتصل بي ليخبرني أن طائرتهم ستقلع من مطار الرياض بعد نصف ساعة لينبع وسوف تغادرها في الثالثة بعد الظهر,, تسخير من الله، ونبل وكرم من هذه الأسرة النبيلة الكريمة التي تعرف قوة الرابطة بين الأسرتين,, الأسرة التي فقدت الغالي العزيز فجأة في الفجر وأخذت في تهيئته للمثوى الأخير بعد العصر,, وأسرتي التي كان أفرادها في ألم وهلع,, وحطت الطائرة في الرابعة بمطار الملك خالد بالرياض,, وأسرعنا للذهاب الى الدار,, وكان الموقف رهيباً,, كان الموكب القادم من المقبرة تسيطر على ملامح افراده كل معاني الحسرة والألم,, عادوا بعد أن أودعوا جثمانه تحت الثرى ليستقر في المقر الذي يأوي اليه كل المسلمين من عباد الله,, ابو عبدالوهاب يمسك به صديقان يصعدان السلم بعد البوابة الرئيسية,, واحسست بتثاقل في خطواتي,, قدماي توشكان أن تتوقفا عن السير,, ولكن لست أدري كيف قفزت لأضم الأب المفجوع الذي قدم منذ قليل إلى الرياض من البحرين,, وجاء هذه المرة ليشيع الابن الغالي إلى مثواه الأخير,, ماذا حدث قبيل الإسراع به إلى المسجد والصلاة عليه؟ لم أشاهد هذا الموقف,, لحظات الوداع الأخيرة للغالي الذي رحل فجأة وحوله أم ورفيقة درب واخوة وأولاد,, وفي البهو الكبير المعد للعزاء داخل الدار جلست بجواره,, ودخل (ياسر) الابن الذي عاد على عجل من امريكا,, كنت احدق فيه كثيراً حينما يدخل المجلس أو خارجاً منه وسط عدد كبير من القادمين للمواساة والعزاء,, ملامح ابيه كانت بادية عليه في تشابه كبير,, في مشيته حينما يمشي,, في دخوله للمجلس,, في مبادرته بتقبيل رأس الاب المفجوع,, في حنوه عليه,, في قربه منه وجلوسه بجواره,,ثم لاينسى أو يغفل في هذه اللحظات التي تمر بكل مافيها من التسليم اولاً بقضاء وإرادة واحد أحد,, وايمان بما كتب الله وقدّر,, وفي جو مشحون بحزن عميق كان يكسو ملامح الحضور تترقرق الدموع في اعينهم دون أن تسيل,, وما أقسى الدموع تحبسها الجفون دون أن تتقاطر أو تسيل,, ياسر لايغفل أن يسلِّم على أصدقاء ورفاق الأب الذي رحل,, وأقرباء الأسرة والأحبة من الحضور,, كان يواسي من أفزعه الحدث,, ويطيب نفوساً تكاد أن تجزع لماحدث,, ولكن لايجزع مؤمن من الردى وهو حق,, ولا تعيق الفجيعة مهما كبرت عوامل الرضا وبما يدخل في إطار اليقين والصدق,, (ياسر) أعاد إلى ذهني صوراً كانت تبدو على ابي ياسر,, صوراً قديمة قديمة,, منذ الطفولة الأولى,, حينما كان في العقد الأول من العمر,, كان يدع,, أحياناً أصدقاء الطفولة خارج الدار في ردهة امام الدار,, ويقترب من مجلس الأب في الحديقة,, وكنا حوله ملتفين,, يتفرس في وجه كل واحد منا,, يستمع إلى احاديث شتى تدار كأنه يريد أن يتعرف عن قرب عن كل ما يدار,, علاقة كل واحد بأبيه,, عن أفكار ورؤى وأحاديث تثار,, وربما كان يبدي رأياً ولكن ليس في مجلس يضم هذا الحضور,, يبديه في الخفاء,, يصارحه به,,, يعلِّق على أمرٍ,, وكان الأب مثالياً في إفساح المجال للابن وإعطائه حرية الحديث في مثل ذلك بل والدخول معه في نقاش,, عقلية يحملها طفل في العقد الأول من العمر,, تتطلع دوماً إلى أفكار رجال كبار,, مثل ذلك كان نادر الحدوث في جيل مضى,, ولكن هذا التطلع وجد قبولاً عند الأب الذي غذَّى التربة ومهّد الطريق واشبع فضول الطفل الصغير او احترم رأي الطفل الصغير فيما يرضي ولايضير,, رأيت ذلك كله ماثلاً بكل صوره في (ياسر) يرثه عن أبي (ياسر) عن الأب الذي غاب ورحل,, لن أتحدث عما ترك من أثر في قلوب محبيه,, ولن أتحدث عن قيم ومثل كانت فيه,, عن عون يخص به المستحقين من الفقراء,, والأخذ بيد من ينشد طلباً يسعى إليه فيغدق عليه بالعطاء,,عن الكثير الكثير مماكتب عنه الأصدقاء أو جاء في مجال الرثاء,, لن أتحدث عن ذلك فلقد أوفى أو المح الى ذلك إخوة كرام صوروا هذا الجانب بكل الصدق وبكل الحب وبكل المشاركة الوجدانية الحميمة فكانت مشاعرهم الكريمة وكلماتهم الصادقة بلسماً للأسرة وخير عزاء,, ماكتبت عنه يا (ياسر) مرت عليه أعوام ،اعوام طوال,, يوم أن كان أبوك طفلاً يدرج أمام أرض المنزل بالملز بالرياض مع إخوانه وأبناء أصدقاء ابيه وجيرانه بالدار,, دار ابيه,, ولابد (يا ياسر) أن أشيد بكل الحق وبكل الصدق بجهود الرجل,, الرجل الذي قدَّر مواهب هذا الابن بعد أن لمح فيه المزايا التي تهيئه للمركز الكبير,, حينما وصل في دائرة المركز الكبير,, وفعلاً فلقد استطاع أبوك أن يظفر بعطاءات منه فيها الحكمة وفيها الأناة وفيها الصدق والإخلاص والوفاء والولاء,, ابو عبدالرحمن معالي الشيخ الجليل محمد النويصر كان أكبر موجه وأعظم مرشد وأروع مدرس أعطى أباك معيناً لا ينضب من هذا الخلق فنال الكثير من الثقة وحاز على الرضا من قائد هذه الأمة يحفظه الله والذي كان المثل الأعلى له,, صنع الرجال هو ومن سبقه من ولاة الأمر يرحمهم الله,.
أبا عبدالوهاب يا أخي الحبيب رحم الله الفقيد الغالي وعوض شبابه في جنات النعيم وكان الله في عونك ومنحك الصبر من عنده وأسبغ على كل افراد الأسرة حسن العزاء والصبر الجميل, إنا لله وانا إليه راجعون,.
خلف أحمد عاشور آلـ سبيه
|