أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 3rd April,2000العدد:10049الطبعةالاولـيالأثنين 28 ,ذو الحجة 1420

الثقافية

مقتطفات من بستان شاعر مصري معاصر (22)
عبدالوهاب طه محمد

وصلاً لما انقطع من تجوال قمنا به من قبل داخل بستان الشاعر المصري/ عبد الحكيم عبدالوهاب هارون المليء بشتى الألوان من أناشيد الطفولة البريئة، ذلك التجوال الذي نشرته الجزيرة في عددها رقم 9974 بتاريخ الأربعاء 19 يناير/ 2000 صفحة الثقافة نستأنف بحول الله من جديد جولتنا، راجين أن يحالفنا التوفيق في بدئها وختمها، آملين أن نلقي عصا التسيار على بر الأمان في جو طيب الأنفاس معافى.
والبداية هذه المرة شبيهة بما انتهينا بإيراده المرة السابقة، فهي تنبع من ذات النفس الصافية لشاعرنا، وتصب في المصب عينه، ذلك المصب الفارد ذراعيه لاستقبال المزيد من ياسمين الصباحات الجميلة,, مصب الطفولة الحالمة بكل جديد.
وعنوان ما أبدأ به (الطفل والطير):
وهنا يروي لنا الشاعر قصة طفل أتى يحمل بين يديه طائراً عدّه حسب مخيلته الغضة شريداً، قابعاً في ركنٍ ما وحيداً، فهو إذاً كما يرى يلزمه إيواؤه، والإحسان إليه وفق مفهومه الطفولي الذي لا يحبذ سوى تجيير الأمور إلى ذاته الصغيرة .
أقبل الطفل سعيداً
حاملاً طيراً شريدا
ضمّه في راحتيه
ضمّه ضمّاً شديدا
قال: قد جئتُ بطيرٍ
كان في الركن وحيدا
ولقد أهديتُ طيري
قفصاً، عندي، جديدا
سوف أُبقيه يغني
فيه لحناً، ونشيدا
وفي المقطع التالي من الأنشودة يورد لنا الشاعر حديثاً جانبياً تنصح فيه الأم وليدها الصغير بأن يردّ الطائر الضعيف إلى حيث مأمنه الحقيقي، المكان الذي أُتي به منه، فهناك أمه التي تتحرق شوقاً إلى لقائه، لتضمه بين جناحيها الحنونين، وهي التي ناحت على فقده طويلاً وأضحى الوكر خالياً، حزيناً، بعد أن كان يملؤه بوجوده شقشقة وضجيجاً:
أيهاالطفل حبيبي
فلتكن طفلاً رشيدا
إنه طيرٌ,, ضعيفٌ
كان بالأمس وليدا
إنه مثل رضيعٍ
تاه من أمٍّ بعيدا *
هتفت: ابني، صغيري
ضربت بالكفّ جيدا
بكت الأمُّ وناحت
ظنّت الطفل فقيدا
فلهذا الطفل قصة طويلة تتمثل لنا عقدتها في غريزة أثرة النفس على غيرها من الذوات، وحب التملك لكل ما في الوجود من شؤون صغيرة,, وكان لابد أن يأتي الحل الناجز، الذي ينبغي أن يكون مسك الختام لتلك القصة:
دعه يا طفلي طليقاً
دعه حُرّاً، وسعيدا
اطلق الطير ليشدو
سترى دنياك عيدا
وأقول:
في قصة هذا الطائر تذكير لنا بفضل الرفق بالحيوان في أسمى معانيه، إذ إن الشخصية التي ترتبط بالحدث الذي سأورده لاحقاً، هي شخصية سيد الخلق ورسول الله إلى البشر جميعاً، فقد جاء في الحديث النبوي: (عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرةً لها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمّرة فجلعت تعرش,, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مَن فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها ,.
* في البيت مكان الإشارة أرى أن يكون شطره الثاني هكذا:
(تاه عن أمٍّ بعيدا)، لأن عن أكثر إفادةً وأقرب دلالةً على البُعد من أختها,.
ورواية أخرى:
كان لأبي طلحة صحابي جليل ابن يقال له عُمير، وكان لعمير طائر أثير لديه، يلاعبه ويلاطفه، وحدث في بعض الروايات أن طرأ لذلك الطائر مكروه، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة حزيناً، فقال له: يا أبا عمير، ما فعل النُغير ؟
يعني الطائر,, وفي هذا أسطع برهان على اهتمام الرسول الكريم بالحيوان، والرفق به.
كما أن هذا النشيد يذكرني بنشيد آخر، قديم متجدد كان مقرراً علينا في المرحلة الابتدائية في أواخر الخمسينيات الميلادية,, أذكر منه:
قد كان عندي بلبلٌ
في قفص من ذهبِ
جميل شكل ريشه
حلوٌ,, طويل الذنبِ
ففرَّ مني ونأى
بدون أدنى سببِ
وقال لي: حرّيتي
لا تُشترى بالذهبِ
هذا، ولا أود الانتقال إلى تناول القصيدة التي تلي هذه، دون أن أورد بعضاً من شعر شوقي في ذلك المعنى، وهو كما ذكرت في حديث سابق لهذا، من أبرع من عالج قصص الحيوان شعراً,, يقول شوقي:
قنصَ البازُ قُبّره
وعلا البشرُ منظره
فانبرى لُقلُقٌ له
ورمى البازَ بالشره
قال:أطلق سراحها
تأتِ بِرّاً ومأثره
ضعفها ظاهرٌ وفي
كَ صِيالٌ ومقدره
فاحبُها نعمةَ الحيا
ةِ جميلاً فتشكره
ضحك الباز هازئاً *
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,.
ضفدعٌ بين مخلبيك
تزجيه كالكرة
ضعفه ظاهرٌ وفيك
صيالٌ ومقدره
فاحبُه نعمةَ الحياة
جميلاً فيشكره
وأقول:
ورد البيت المشار إليه بنجمة هكذا في النص الذي استشهدت به، وقد حذف شطره الثاني ,, ولعل المقصد يكتمل بقولنا:
ضحك الباز هازئاً
من حديثي وأنكره.
ثم: فيما يشبه العلاقة بين الصوت المجرد وصدى ذلك الصوت، وبما يذكرنا بأنشودة المطر للسياب، ومقطعها المعاد المكرور:
مطر,, مطر,, مطر ، تطلّ علينا أنشودة العيد وعنوانها بادٍ للعيان بالكيفية التالية: (العيد العيد العيد العيد) وذلك مما يمثل للمتلقى حال أطفال تجمعوا على صعيد واحد، وقد أتوا من نواحٍ متعددة وهم يتصايحون فرحين: العيد، فيرتدُّ إليهم رجع الصدى: ال عيد ال عيد ال عيد,.
وإذا ولجنا عبر مدخل الأنشودة، وتوغلنا في عمقها، وحتى لحظة خروجنا عن النص، فنحن عبر هذا كله نعيش جوّاً من الظرف واللطافة يهيئه لنا مناخ الأنشودة الذي أرادت ذائقة الشاعر أن يختار له ذلك الجو الذي يصلح لأن يتغنى به الأطفال وهم يتمايلون غبطة وجذلاً، ذات اليمين وذات الشمال وأفئدتهم فارغة إلا من العفاف والحب البريء,, فهي الأنشودة تسير على نهج الأغاني الزجلية الخفيفة التي تؤدى في بضع دقائق، فهي لا تحتمل الإطالة المملّة,.
يقول الشاعر:
العيد هلّ علينا وجانا
جدّد أفراحنا وهنانا
خلَّ الدنيا جميلة وفرحة
عمّت من أرضنا لسمانا
* * *
وخرجنا نهيّص ونغني
والعصافير غنّت ويّانا
والياسمين والنرجس مالوا
على أغصانهم رقصوا معانا
والأشجار أوراقها تهفهف
وتسقّف على لحن غنانا
* * *
ولبسنا ملابسنا الحلوة
كل الناس في الكون فرحانة
رحنا نعيّد على حبايبنا و
همَّ كمان جُم هنّوا معانا
ورجعنا,, وقلوبنا سعيدة
وجيوبنا بالخير مليانة
إن شا الله دايماً يا بلدنا
منصورة وف أعلى مكانة
فالأنشودة، لغتها سهلة مبسطة، ومضامينها ومعانيها لا تُشكل على الأفهام والمدارك العادية، بله المتخصصة في علوم اللغة والأدب,, ولنتناول على سبيل المثال قدراً يسيراً من مفرداتها ليتبين لنا مكمن الجمال في هذه الأنشودة:
جانا، نهيّص، ويّانا، نسقّف، جُم فهذه المفردات، وغيرها مما لم أتعرض لذكره، لكل منها ما يقابلها في اللغة الفصحى، غير أنها بتلك الكيفية من التناول، أضحت أقرب منها للأنفس المجهدة من عناء العمل وتحصيل العلم، من لغة الملك الضلّيل وفارس عبس، وصنّاجة العرب، ومن لفّ لفّهم,, تلك اللغة التي قلَّ في عصرنا هذا، عصر الإنترنت والعنكبوتيات من يتعامل بها أو يتفاعل معها.
***
أما في أنشودته يا نفس وأقول أنشودته، لأن الشاعر سلك فيها، وفي سابقتها نهج أهازيج النشء وهم يتراكضون فرحين مسرورين، بحيث لا تكاد الدنيا تسعهم لفرط ذينك الفرح والسرور، فالذي إخاله أن الشاعر طرح في مخيلته بعض آيات الكتاب المبين وشيئاً من أمثال وحكم وأقوال مأثورة، ثم انداحت بعد ذلك الصور والأخيلة أمام مرآته الشاعر الصافية، فتولدت تلك اللوحة التي ضمت شتى الأشكال التعبيرية التي اختار لها شاعرنا كعادته مفردات بسيطة المبنى والمخبر، وبحراً يتناسق ويتساوق وسرعة دوران دولاب الزمن,, فهو يقول:
كل ما عندي أمل
ودعائي والعمل
أتقي الله به
في رجاءٍ ووجل
كل شيء غيره
زائل عند الأجل
وهي أبيات يتضمن ظاهرها معناها، وبادٍ للعيان شرحها، ولكن الذي يعنينا فيها، هو الاستشهاد كما ذكرنا آنفاً فقد جاء قوله تعالى في كتابه العزيز كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة (185 آل عمران) وقوله تعالى كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنةً (35 الأنبياء) وقوله جلّ من قائل كل نفس ذاقة الموت ثم إلينا ترجعون (57 العنكبوت).
وعن عبدالله رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخطّ خطاً في الوسط خارجاً منه، وخطّ خُطُطاً صغاراًإلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط,, وقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخُطُط الصغار الأعراض,, فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا .
وفي قول الرسول (أو قد أحاط به) : أو هنا للشك, والأعراض هي النوازل كالمرض والفقر والهموم,, وجاء استخدام لفظ النهش وهو لدغ ذوات السُّم، للتعبير عن المبالغة في الأخذ.
ويمضي شاعرنا فيقول:
إيه يا نفس الهوى
ليست الدنيا محل
تأكيداً لما سبق طرحه,.
ويستأنف مفسراً، وهو يضع النقاط على الحروف، مستشهداً في ذلك بأحسن الكلام، بعد القرآن، الحديث النبوي :
أنت في الدنيا كمن
خطّ خطّاً وارتحل
كل لفظٍ قلته
شاهدٌ إلى الأزل
وفي البيت الأخير إشارة إلى قوله تعالى ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد الآية.
ويقول:
إنما عمر الدنا
لحظ طرفٍ أو أقل
وبيان ذلك في قوله تعالى: ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم (يونس 45),وبعد كل هذا القدر الوافي من الاستشهادات الدامغة، الداعية إلى الإلتزام بالخلق النبيل، والتمسك بأسباب، وأهداب العفة وطهارة الأنفس، يجيء قول الشاعر ناصحاً، دالّاً إلى أهدى سبيل:
فأفيقي وانفضي
عن مآقيك الكسل
وافعلي الخير فمن
فعل الخير,, عَقَل
واغرسي غرساً بها
وانثري فيه الأمل
واتقي يوماًبه
كل نفسٍ ستُسل
* إشارة:
في قول الشاعر كل نفس ستُسل تورية، إذ عنى بذلك ستُسأل فخفف بحذف الهمزة، كما أنه قصد باللفظة ستُسل : استخراج النفس أو الروح من الجسد.
أما قصيدته الأم فقد كتبها هارون، منتهجاً أسلوب الشعر الحر، الذي هو ديدن السواد الأعظم من شعراء زماننا هذا، الذين لم يعد يروي غليلهم البحور التي نسج عليها الجاهليون أشعارهم,, ثم تبعهم في ذلك جماعة العصرين: الأموي، فالعباسي,.
والذي استلفت نظري في هذه القصيدة، الحذف المتعمد لأمور لم يرَ الشاعر ضرورة لذكرها ، ذلك الحذف الذي اعتمده الشاعر أسلوباً ونهجاً تخللها بدءاً ومنتهى,.
ويدلنّا على ذلك الحذف النقاط التي تتضمنها القصيدة التي تقول كلماتها:
كانت أمي عيناً تسهر
ثغراً يضحك,,.
ظلاً يدفع لسعات الحر
تتحدى الموج لتوصلنا
لأمان البر,,.
كانت تتداوى بالصبر
تعتاد المُر,,.
تُخفي أمي خفقان القلب
تدفن آهاتٍ في الصدر
تحتسب الأجر,,.
* * *
وتقوم لتمشي واهنةً
والمشي ألم,,.
وتحثُّ القدمَ لتنقلها,,, وتكاد تئن
فتزمُّ الفم,,.
* * *
لو نشكو همّاً تحمله
فيزول الهم,,, تبتسم، تحاول جاهدةً
لتكون لنا دوماً,,, الأم
* * *
وبكل هدوءٍ تتركنا
تمضي في صمت
فالعمر ثوانٍ راصدةٌ,,, متربصةٌ
تنتظر الحكم,,, يرحمك الله أيا أمي
يا أغلى أم,,.
أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved