| أفاق اسلامية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين,, أما بعد:فإن الخصومة والتنازع من لوازم الطبيعة البشرية، وإلى هذا أشار المولى عز وجل حيث حكي على لسان نبيه داود عليه السلام : وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم )سورة ص 24(، فاقتضت حكمة الباري سبحانه اقامة نظام رادع لمن تؤزه نفسه على غصب حق الضعيف، والاستيلاء على ممتلكاته، ولولا هذا الرادع لاختل النظام، وعمت الفوضى ، وطم البلاء، وقد قال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين سورة البقرة .وقال الله تعالى لنبيه داود عليه السلام : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ص26، ولذلك نرى الناس مجبولين على أن يحسبوا للقضاء والقضاة حسابهم، ونجد الشرائع والدساتير متفقة على احاطة السلطة التشريعية والجهاز القضائي بهالة من الاجلال والتقدير.وقد كانت الشرائع تراعي التدرج والارتقاء العقلي والاجتماعي في المجتمع البشري, ولما بلغ العقل الإنساني قمة النضج والكمال، وأصبح العالم مثل مدينة أو قرية اقتضت حكمة الله إنزال شريعة متكاملة تفي بمقتضيات العصر الحديث، وتتناسب مع مستوى العقل البشري، فأنزل الله تعالى الشريعة الإسلامية وجعلها الشريعة الخالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد تكفلت هذه الشريعة الغراء بتنظيم كافة جوانب الحياة، الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ولم تدع مشكلة من المشاكل التي تواجه البشرية، أو التي يمكن حدوثها في المستقبل القريب أو البعيد إلا وضعت لها الحل الكافي والعلاج الشافي الذي يضمن تحقيق مصلحة الفرد والمجتمع، فجاءت الشريعة الإسلامية شاملة لنظامها القضائي الذي يتسق مع عدلها وشمولها، ومن يرجع إلى التراث الإسلامي يجد كتب الفقهاء زاخرة بالبحوث القيمة في علوم القضاء، ولعل أهم هذه العلوم ذلك الذي يتعلق بطرق الإثبات والاعتراف، لأن صرح القضاء يقوم على دعامة نظام الاثبات المتميز، فإذا كان نظام القضاء ضرورياً للمجتمع الانساني، فكذلك لابد لاقامة العدل واستيفاء الحقوق واستتباب الأمن ورد الظالم من التحري حتى لا يقضي في أية دعوى إلا بعد أن يقوم عليها دليل يثبت صحتها، فإن قبول الدعاوى المجردة عن دليل يؤيدها تفتح باباً واسعاً للفساد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: لو يعطي الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه صحيح البخاري 5/178، وصحيح مسلم 3/59.وهذا الحديث يوضح لنا مدى اعتناء الشريعة الإسلامية بالاثبات وطرقه، وقبل أن ندخل في البحث عن بعض الأمور المتعلقة بطرق الاثبات يحسن بنا ان نعرف بالإثبات، ونذكر أركان الإثبات.الإثبات عند الفقهاء هو الحكم بثبوت شيء لآخر، وضده النفي التعريفات الفقهية تأليف محمد عميم الاحسان ضن مجموعة قواعد الفقه ص 158.أما رجال القانون الوضعي فعرفوه بأنه اقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي يحددها القانون على صحة واقعة قانونية يدّعيها أحد طرفي الخصومة، وينكرها الطرف الآخر )د, عبدالودود يحيى دروس في قانون الإثبات(.أما أركان الاثبات فخمسة:1 المثبت على صيغة اسم الفاعل، وهو الذي يتولى اثبات حق من الحقوق، ولا يتأتى ذلك إلا من يتمتع بولاية القيام بذلك، وهو القاضي، وله شروط، منها ما اتفقوا على اعتباره.أ التكيف: فلا يصح تعيين الصبي، ولا المجنون قاضياً.ب الاسلام: فإن القضاء ولاية، وقال الله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، ومنها ما اختلفوا في اشتراطه.أ الذكورية: ذهب الجمهور إلى اشتراطها، ويرى ابن جرير الطبري، وابن حزام الظاهري ان المرأة يصح قضاؤها في كل شيء، وذهب أبو حنيفة إلى صحة قضاء المرأة مع إثم موليها إلا أن قضاءها لا ينفذ في حدود ولا قصاص.ب الحرية: الجمهور على اشتراط الحرية، ويرى ابن حزم وغيره ان العبد تصح ولايته للقضاء.2 المثبت عليه: وهو من توجه إليه الحق، وقد اشترط الفقهاء في المثبت عليه عدداً من الشروط منها:أ الحضور في مجلس الحكم، فلا يجوز القضاء على الغائب عن مجلس الحكم الحاضر في البلد اتفاقاً إلا اذا كان عنه وكيل حاضر، وإلا اذا أقام المقضي له بينة عادلة لا محيد عنها.ب ألا يكون عدواً للمثبت، فإن العداوة تمنع الشهادة، فتمنع القضاء بالأولى.ج العقل والبلوغ، فلا يصح القضاء على الصبي أو المجنون، لأنهما عاجزان عن الدفاع عن أنفسهما.د ان يكون معلوماً، لأن القضاء على المجهول لا معنى له.3 المثبت له، وهو من يظهر للقاضي صدق موقفه لقوة الأدلة التي قدمها لاثباته.وقد اشترط الفقهاء للمثبت له عدداً من الشروط منها:أ أن يكون أهلاً للشهادة في حق المثبت.ب حضوره في مجلس القضاء أصالة أو وكالة.ج أن يطلب من القاضي الحكم بثبوت الحق له.4 محل الإثبات، وقد ذكر الفقهاء عدداً من الشروط، يجب توفرها فيه، ومنها:أ أن يكون مما يتصور ثبوته، فان كان مستحيلاً عقلاً أو عادة لم تصح الدعوى.ب أن يكون محدداً تحديداً كافياً لتمييزه عن غيره.ج ان يكون متنازعاً عليه.د أن يترتب على ثبوته إلزام أحد المتداعيين بحق لآخر.ه ألا يكون قد صدر فيه القضاء، وتم الفصل فيه بشكل نهائي.5 المثبت به، والمراد بذلك الوسائل أو الطرق التي يثبت بها اثبات المدعى به أو نفيه أمام القضاء، ويمكن تلخيصها في ثلاثة:1 البينة، 2 اليمين، 3 الاعتراف والإقرار.البينة: وجمهور الفقهاء خصوها بالشهادة، ولذا نجد ابن القيم يعقب عليهم في هذا التخصيص، وقال: إن من خص البينة بشهادة الشهود لم يعرف مسماها حقه والشهادة في اصلاحهم هي اخبار الانسان بحق لغيره على غيره، أو هي إخبار صادق لاثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء.وأداء الشهادة واجب في غير الحدود لقول الله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا البقرة 383 وقال تعالى: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه .أما الحدود، فالمطلوب فيها الستر، فالشهادة فيها غير واجبة، والشهادة حجة من الحجج الشرعية، تثبت بها جميع الحقوق، سواء كانت من حقوق الله الخالصة أو من حقوق العباد مهما كانت قيمة الشيء المدعى به، وقد رتبت الشريعة الإسلامية نصاب الشهادة على أربع مراتب:1 الشهادة على الزنا، ونصابها أربعة رجال.2 الشهادة على بقية الحدود والقصاص، ونصابها رجلان، ولا تقبل فيها شهادة النساء.3 الأمور التي لا يطلع عليها الرجال مثل عيوب النساء والولادة والبكارة والنصاب فيها شهادة امرأة واحدة.4 سائر الحقوق المالية مثل: البيع والهبة والوصية، وغير المالية مثل: النكاح والطلاق والنصاب فيها رجلان، أو رجل وامرأتان.اليمين: هو والحلف والقسم والإيلاء: ألفاظ مترادفة، وهو حجة شرعية بالاجماع لقوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان , سورة المائدة 89 وقال عليه السلام: لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه , متفق عليه.وينقسم باعتباره وسيلة للقضاء إلى قسمين: يمين قضائية، ويمين غير قضائية.والقضائية تنقسم إلى قسمين أيضاً:أ يمين البتات، وهي أن يحلف الشخص بصيغة الجزم على وقوع المحلوف عليه، أو على عدم وقوعه.ب يمين عدم العلم، وهي أن يحلف الشخص على عدم علمه بصدور المحلوف عليه.وهناك قسمة أخرى، فاليمين إما حاسمة تحسم النزاع دون أن ينضم إليها دليل آخر.وإما متممة، وهي التي يوجهها القاضي إلى المدعي ليستكمل بها الأدلة التي يقدمها.ويشترط لصحة اليمين عدد من الشروط:1 ان تكون صادرة من البالغ العاقل المختار.2 ان يطالب المدعى عليه باليمين.3 ان تؤدى في مجلس القضاء.4 ان تكون باسم من أسماء الله وصفاته.الاقرار والاعتراف:والمعنى الاصطلاحي هو اخبار الانسان بحق عليه لغيره، وهو حجة بدليل من الكتاب والسنة والاجماع والمعقول.فالكتاب قوله تعالى: وليملل الذي عليه الحق وليتق الله البقرة 383 ، أما السنة فما روي متفقاً عليه من أنه صلى الله عليه وسلم قبل اقرار الجهنية بالزنا ورجمها.وأما الاجماع فقد أجمعت الأمة على أن الاقرار حجة على المقر، وجرت بذلك في معاملاتها واقضيتها.أما المعقول فهو أن العاقل لا يقر بشيء ضار بنفسه أو ماله إلا اذا كان صادقاً، ومن الشروط التي تدل على بعد نظر الفقهاء ألا يكون المقر متهماً في هذا الاعتراف.فلو كان متهماً فيه لم يصح اقراره، فإن الاقرار والاعتراف شهادة على النفس، والشهادة ترد بالتهمة.الفرق بين الشهادة والاقرار في الأمور الآتية:1 الشهادة حجة كاملة لاتصال القضاء بها، بينما الاقرار حجة قاصرة على المقر فقط.2 الشهادة لا توجب حقاً إلا باتصال القضاء بها، والاقرار موجب للحق بنفسه، وان لم يتصل به القضاء.3 الإقرار يصح بالمعلوم والمجهول، فلو قال علي دين قبل، ولو أقر بالزنا بامرأة لا يعرفها حد، والشهادة لابد ان تكون في معلوم، ولو قال الشاهد لا أعرفها ردت شهادته.وفي كل منها فروع يطول ذكرها.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.* نائب رئيس المجلس الإسلامي في باكستان وإمام وخطيب الجامع المحمدي في رواندي
|
|
|
|
|