| الثقافية
إبراهيم نصر الله
من المعضلات التي يمكن أن يواجهها كاتب، أن ينتقل بعد فترة من الكتابة في مجال معين، إلى مجال آخر له مقوماته الخاصة ومعاييره الداخلية ومراجعه الإنسانية والاجتماعية والفنية وتاريخه كنوع إبداعي، ويأتي مصدر هذه المعضلات من صعوبة تقبل التغيير والخروج من الصورة التي رسمها الكاتب لنفسه ورسمها الناس له أو قبلوا بها, لكن لابد من الإشارة هنا، إلى أن بداياتي الأولى، حملت بذور الشعر والرواية في آن، فإلى جانب قصائدي البسيطة، كانت هناك محاولتان روائيتان ساذجتان، كتبتا تحت تأثير ما كنت أشاهده من أفلام عربية، وكانت الشخصيات فيهما مستوحاة من شخصيات سينمائية، لكن الشعر، استطاع أن يتقدم ويتخطى اهتمامي بالرواية، وربما يعود ذلك إلى أن الشعر أكثر قربا من أحاسيس الإنسان الأولية الفطرية وأسرع استجابة لها، باعتباره دائم الاتصال مع الذات كبؤرة للعالم، في حين أن الرواية أكثر تركيبية، ويلزم المرء أن يكون قد أحاط بذاته نسبياً!! بصورة كافية قبل أن ينتقل إلى ذوات أخرى، يحاورها ويعايشها، ويقبل بوجودها، ويعي حريتها.وقد كان صدور روايتي الأولى، بعد خمسة دواوين شعرية، بمثابة انتقال من قارة إلى قارة أخرى في نظر عدد كبير من الناس والنقاد على وجه الخصوص، وهجرة إلى أرض مجهولة ليس بمقدور أحد الموافقة على مرافقتي إليها، وهي تحمل في ثناياها خطورة تصل إلى حدود إمكانية اللاعودة، بما يعني ذلك من فقدان لصورة تشكلت ووجدت مكانها في أرض الكتابة، أو بما يمكن أن أصفه مغادرة أرض للعيش فوق خارطة.هكذا، ومن خلال هذا الحس تم استقبال عملي الروائي الأولبراري الحمى ، بتحفظ وحذر، وفي أحيان كثيرة برفض مطلق: ثمة من دعاني لإحراقه مثلا بعد أن قرأ المخطوطة، وثمة من قال حتى قبل أن يرى غلاف الكتاب الصادر عليك أن تتحمل قسوتنا عليك !!! لكن، ومقابل هذه الصورة كان هنالك استقبال جيد عبر بعض الكتابات التي رأت فيها رواية مختلفة.وعلى أي حال لم تكن في ذهني أبدا إمكانية العودة إلى تكرار التجربة من جديد، لا بسبب هذا الاستقبال الحذر الذي مالبث أن تراجع بعد ذلك سواء من خلال النقد الجسور الذي وقف إلى جانبها، أو البدء بترجمتها إلى الإنجليزية بعد عامين من صدورها بل لأنني كنت أعمل في تلك الفترة على ترسيخ اتجاه كنت قد بدأته منذ مطلع الثمانينات، ويتمثل في كتابة القصيدة ذات الاتجاه الملحمي، وكنت أرى فيه ذروة اتساع القصيدة وقدرتها على استيعاب العالم، عبر تعدد الشخوص ونمو الأحداث، وحضور الزمان والمكان وهضم الأسطورة، بل ومحاولة خلقها أحيانا، لكنني أيضا، ماكنت أعلم أن هذا الاتجاه لابد سيقودني إلى شكل أكثر اتساعا منه، وفي الحالات الطبيعية يكون المسرح هو المستقر النهائي لتجربة القصيدة الدرامية، ولعل خوفي من المسرح كظاهرة محاصرة بوسائل الإنتاج والرقابة المباشرة ربما، كان أحد أسباب تحول تجربة القصيدة الدرامية لدي نحو الرواية.ويجدر بي أن أعترف هنا أن التجربة التي عشتها، كانت من حيث القوة والتأثير إلى درجة عدم القدرة على تجاوزها بالزمن، أو التعبير عنها بالشعر، حيث حاولت ذلك في البداية عبر قصائد ، وجدتها في النهاية مقارنة بسطوة التجربة، ليست أكثر من محاولة لوصف الحالة لا العيش فيها ومحاولة للدوران حولها لا خلقها من جديد عبر الكتابة, ببساطة، لقد كانت التجربة أكبر من القصيدة، لكن خوفي من الرواية جعلني أتردد طويلا، ولم تكن محاولاتي المتعددة لكتابتها تختلف عن محاولات جدنا الأول ساكن الكهوف الذي راح يرسم صور الحيوانات على جدران كهفه، ومن ثم توجيه سهامه إليها، كي يتجرأ على مواجهتها ما أن يغادر الكهف ويجد نفسه معها وجها لوجه.كتبت أكثر من مسودة أولى لم تكن أقل إخفاقا من القصائد التي حاولت من خلالها التعبير عن التجربة، وقد استمر ذلك لأكثر من عامين، إلى أن أصبحت يائساً من إمكانية كتابة هذه الرواية التي غدت بصورة من الصور رواية مستحيلة، واكتشفت أن الحياة فيّ أكبر من أدوات تعبيري الروائية عنه، وماكنت أعلم أنني طوال الوقت لم أكن أفعل سوى جر العمل الذي أريد كتابته إلى بيت الطاعة رغما عنها، فقد كنت أدرك تماما ما أريد التعبير عنه، لكنني لم أكن قد وجدت له البناء المناسب الذي يمكن ان يعيش فيه.في نهاية شهر تشرين أول أكتوبر عام 1982 حيث مأساة بيروت في أوجها، والإحساس الطاغي بالموت الشخصي والعام مسيطر، كحالة يومية بالغة القسوة والعنف، أطلت جملة واحدة، من بين كل الركام المحيط، رحت أرددها داخلي أثناء سيري في أحد شوارع عمان، وحين انتبهت تماما لها، قمت بكتابتها فورا على ورقة، ووضعتها في جيبي، وبعد لحظات كنت على يقين بأن الرواية قد كتبت وانتهى الامر, كانت الجملة:مجرد أن قالوا لي أنني قد مت وان علي أن أدفع مساهمة مني في نفقات دفني، أدركت أن هناك مؤامرة تحاك ضدي .يمكن أن أقول إن هذه الجملة قد حددت مسار الرواية، لأنها مضت بها نحو تجسيد حالة الموت في الحياة، ورسمت خط سيرها الغرائبي الذي راح يمزج الواقع بالأسطورة، ويمنح الصحراء مرتبة البطولة، ويؤاخي بين الكائنات المطحونة فيها، بشرا كانوا، أم حيوانات، ويوحد الجميع في الكابوس، حيث لا مكان مطلقا للحلم.بعد كتابة الفصول الأولى، أدركت أنني أمضي في الاتجاه الصحيح، وأدركت ان الرواية تخرج عن المواصفات التقليدية للرواية، ولكنني بت مقتنعا تماما أنني أعبر عن مفهومي الخاص للعمل الروائي، وقد منحني مزيدا من الحرية بقدر ماحاصر الرواية فيما بعد إحساسي بأنني حر في كتابة ما اريد، إتكائي على تجربة شعرية كانت موضع تكريم في أكثر من مناسبة, وقد كان هذا الإحساس دفعة جوهرية في مجال المغامرة, فإذا بقصائد كاملة تكتب خلال السياق العام للرواية، لتعبر عن بعض ذرى الأحداث، وإذا بالمسرح يحضر، إلى تلك الدرجة التي تدفعني لكتابة كلمة ستار في نهاية الفصل مثلا، وإذا بأساطير المنطقة وخرافاتها الشعبية تنعجن بالواقع، وإذا بتقنية التجسيد التي ظهرت في المطلع، تأخذ امتدادها في سير أحداث الرواية ومصائر أبطالها: رأس مريم ينفجر مادياً وليس معنوياً، وتجوع الحرة ولا تأكل بثديها تتحول في حالة تجسدها إلى واقعة يتم في حلبٍ فعلية، في مشهد بالغ القسوة, وإذا بصراع الداخل المعبر عنه بحالة الفصام يتصاعد بالوتيرة نفسها التي تطحن الخارج وتفصمه.حين انتهيت من كتابتها، كنت قد غدوت شخصا آخر بالتأكيد، حرا من الحالة التي لامست فيها الموت وتأرجحت على حوافه، وحرا في أن باستطاعتي كتابة ما أريد مستقبلا، غير عابىء بشيء إلا معيار الصدق وهو يختار الشكل الذي يكتب فيه.هكذا، لم أعمل فيما بعد على زج أي فكرة في شكل فني رغما عنها، ويمكنني القول إنني قد غدوت أكثر ديمقراطية في تعاملي مع ما أكتبه، فلا شيء مسبق يحدد صورة الكتابة اللاحقة، سوى ما يمليه قانونها الداخلي.ربما، أكون قد توسعت هنا في مجال الحديث عن تجربة براري الحمى، ولكن ذلك عائد في اعتقادي إلى أنها تمثل الدرس الأول الذي كان علي أن أدركه، وماكنت سأدركه لولا كتابتي لتلك الرواية، التي كتبتها بقدر ما كتبتني، وربما، كتبت أعمالي التالية.وإن كان لابد من قول أخير في هذه التجربة، فهو أنها كانت ابنة لتأثير المسرح، أكثر مما هي ابنة لتأثير الرواية الحديثة، وحين أقول المسرح أقصد هنا بالتحديد المسرح الإغريقي ومسرح شكسبير ومسرح العبث، حيث كنت قد تفرغت تماما لدراسة هذا الثالوث العظيم بصورة كاملة في العام السابق لكتابة براري الحمى، وقد فتنت بما يمكن أن أدعوه هنا حركة الداخل، تلك التي تتدفق بصخب ممزقة جلد الشخوص في تلك المسرحيات من فرط قوتها، بحيث نقرأ ما يدور في أولئك الشخوص بالطريقة نفسها التي نرى ونقرأ ما يدور حولها.ولفترة طويلة، كنت مقتنعا أنني كتبت رواية، ستكون هي الابنة الوحيدة بين مجموعة من الأولاد الذكور، أي الدواوين, وقد كان ذلك الإحساس ضروريا على أكثر من مستوى، حيث ساعدني في التحرر من أي قرار بإعادة التجربة، لقد كتبت رواية، كما أفهم الرواية، وانتهى الأمر، وعدت ثانية إلى قصيدتي، ولدي إحساس بأنني قادر على العمل لإنجاز القصيدة بصورة أفضل، لا لشيء، إلا لأنني اكتسبت لأول مرة وعشت لأول مرة فضيلة الصبر والعمل المتواصل الدؤوب اللازم لكتابة نص طويل.
|
|
|
|
|