|
| مقـالات
لم تكن الدراسة في مدينة كبيرة عامرة بنشاط علمي متميز, امراً عادياً بالنسبة الى ابن القرية النائية في ذلك الوقت، ولم تكن الدراسة الجامعية مطلبا ميسورا في حينها لكل الطلاب الراغبين في مواصلة العلم، ولذلك كان لمدينة الرياض مكانتها الخاصة في نفسي، وللحياة فيها متعتها الخاصة، وكان الاقبال عليها اقبال شغف بما فيها من حركة علمية كبيرة تتمثل في تلك الاجواء العلمية والثقافية التي تتحقق لطالبها في اروقة الكليات والمعاهد، ومازلت اذكر ذلك الركض الجميل الذي كنا نمارسه يومياً في ميادين العلم والثقافة، حيث نلاحق ما يعلن عنه من ندوات ومحاضرات وامسيات في المساجد والكليات والمعاهد، انها متعة الحصول على المعلومة التي لا تضاهيها متعة من متع الحياة الاخرى ولاباس ان اروي هذه القصة التي تؤكد ما ذكرته هنا عن متعة العلم.
يقول ابن العميد: ·ما كنت اظن في الدنيا حلاوة كحلاوة الوزارة والرياسة التي انا فيها حتى شاهدت مذاكرة علمية جرت بين الامام الطبراني، وابي بكر الجعابي بحضرتي، وكان الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه، وكان الجعابي يغلبه بفطنته حتى ارتفعت اصواتهما عندي، الى ان قال الجعابي: عندي حديث ارويه لايوجد الا عندي، فقال الطبراني: هات, قال: انبأنا ابو خليفة أنبأنا سليمان بن أيوب، ثم ذكر الحديث، فقال الطبراني وعلى وجهه علامات الثقة: اتدري من هو سليمان بن أيوب؟ انه انا رواه عني ابو خليفة وسمعه مني، فاسمعه مني انت الآن بسنده العالي، قال ابن العميد: فرأيت الجعابي قد خجل وانكسر، ووددت انَّ الوزارة لم تكن لي، واني كنت انا الطبري لاشعر بمتعة العلم، وافرح كما رأيته فرح بما تيسر له منه .
نعم، انها متعة العلم ولذة تحصيله، فاذا اضيف الى ذلك اخلاص النية وصفاء السريرة فحسبك به من شرف عظيم.
اقول: كنت اركض في ملاحقة ما يعقد من الندوات والمحاضرات التي لم تكن القرية تستطيع ْ في ذلك الحين ْ ان تمنحني مثله، وكان من الاسماء البارزة ذات الحضور القوي على الساحة الثقافية ·يحيى المعلمي ، نعم يحي المعلمي بدون القاب عسكرية ولاغيرها، وبدون اطراء ومديح، لقد ارتبط في ذهني ذلك الاسم بمقالات عن اللغة العربية وبمحاضرات عن الامن في القرآن ، ومكارم الاخلاق في القرآن، وبندوات يدافع فيها عن الفصحى دفاع المحب لها، الغيور عليها، الذي لايرضى بها بديلا، وما ازال ارى نفسي ابادر كل صباح الى شراء جريدة الجزيرة لارى تلك المحاورات الساخنة بين المعلمي والشاعر عبدالله بن خميس حول العامية والشعر العامي.
ثم مرت الايام وشاء الله ان اهتدي الى تلك الندوات العامرة التي كانت تعقد في منزل ذلك الرجل السمح الكريم ·عبدالعزيز الرفاعي ْ يرحمه الله ْ اسبوعيا مساء كل خميس، فوجدت فيها ضالة كنت انشدها، انها مجلس علمي وثقافي وادبي مفتوح تغمره اريحية ·عبدالعزيز الرفاعي وسماحته وكرمه، وتحييه ثقافته الواسعة وعلمه، لقد كانت هذه الندوة بداية تعرفي على كثير من العلماء والادباء والمفكرين من داخل المملكة وخارجها وكان من ابرز من التقيت به في تلك الواحة الرفاعية ·يحيى المعلمي رأيته صاحب رأي وبصيرة يناقش مع الحاضرين كل ما يطرح من قضايا وافكار، ويلقي بعض القصائد الشعرية، ثم زادت العلاقة به رسوخا بعدما غمرني بتشجيعه الابوي على ما القي من القصائد في ذلك المنتدى الكريم ثم علمت بعد ذلك ْ حين اطلعت على لقاء صحفي نشر في جريدة البلاد ْ ان للمعلمي علاقة بوالدي يرحمه الله حيث ذكر انه كان يحضر بعض حلقات والدي العلمية في المسجد الحرام، فوجدت نفسي امام رابطة اخرى تضاف الى رابطة العلم، وتزيد مشاعر المودة والتقدير عمقا ورسوخا.
ان يحيى المعلمي رجل متميز، لشخصيته جوانب متعددة مضيئة، وان اهتمامه بالعلم وحرصه عليه، وعنايته الكبيرة بأصالة الثقافة والادب وصراحته في طرح آرائه، واحساسه العميق بالدور الكبير الذي يمكن ان يقوم به علماء وادباء ومثقفو المملكة في اثراء الساحة الثقافية العربية والعالمية بثقافة عربية اسلامية اصيلة نقية من شوائب الثقافات والافكار المنحرفة,, ان ذلك كله يدفعك الى احترام شخصية ·المعلمي وتقديرها حتى وانت تختلف معها في بعض الآراء والافكار، ولقد لمست جانب الاحترام المتبادل بينه وبين ابن خميس، وبينه وبين ابي عبدالرحمن بن عقيل، بالرغم من حدة النقاش الذي جرى بينهم في بعض الاحيان.
ان تعرُّف القارىء على شخصية المعلمي الثقافية يتم من خلال اكثر من ثلاثين كتابا في موضوعات شتى، منها ما هو اسلامي له علاقة بالقرآن والحديث والدعوة مثل: الامن في القرآن والاعلام في القرآن، والمرأة في القرآن، والادعية القرآنية، وآداب السلوك الاجتماعي في سورة الحجرات، والامثال والشواهد في الحديث الشريف، وكلمات قرآنية او مفردات القرآن.
ومنها ما هي تاريخي مثل: صور من التاريخ،ومن فصحاء العرب.
ومنها ما هو لغوي مثل: اخطاء مشهورة ومناقشات لغوية، والوجيز في النحو.
ومنها ما هو ادبي مثل: الانسان في الميزان: خماسيات شعرية، وعقود الجمان: شعر وشعراء، وشذا العبير: عيناك يكمن فيهما الخطر، ونبضات قلب على الشيخ جمل الليل.
ومنها ما له علاقة بالأمن: خصائص القيادة الناجحة في سير القادة العظماء، والامن والتخطيط، الأمن والمجتمع، والشرطة في الاسلام, والذي يلفت النظر في انتاج العلمي ذلك التنوع في الموضوعات التي يتناولها، وتلك الدائرة الثقافية الواسعة التي تشتمل على مجالات متعددة، وبالرغم من تأليفه لعدد من الكتب عن الامن والشرطة - وهو مجال تخصصه - الا انني مازلت اشعر اننا بحاجة الى ما يمكن ان يسمى (موسوعة الشرطة في الاسلام)، وبإمكان (المعلمي) ان يشرف على هذا العمل ويكون فريق عمل من الباحثين للقيام به، وهو اضافة مهمة للمكتبة الامنية خاصة وانه ذو تجربة عملية مرتبطة بمعرفة تاريخية، واطلاع على انظمة الشرطة في العالم المعاصر من خلال ما حضره من ندوات ومؤتمرات ممثلا للمملكة.
مكارم الأخلاق في القرآن:
من الكتب الجميلة التي اطلعت عليها مبكرا هذا الكتاب الذي تتبع فيه ·المعلمي مكارم الاخلاق من خلال آيات القرآن الكريم، وقد ذكر الكاتب ما يقارب خمسين خصلة مستشهدا عليها بالآيات القرآنية، ومشيرا الى عناية كتاب بالله بالاخلاق الكريمة، تناول في ذلك الخصال الحميدة والتي حث القرآن عليها، والخصال الذميمة التي حذر منها.
وكانت النتيجة كتابا يقع في اكثر من ثلاثمائة صفحة، ثمارها قريبة المأخذ حلوة المذاق، سهلة الاستيعاب، يقول المؤلف عن ·الاخاء : ·جاء ذكر الاخاء في القرآن الكريم بأنماط مختلفة خمسا وتسعين مرة، يشتمل بعضها على نماذج من قصص الاخاء والاخوة ومالها من تأثير في العواطف والمشاعر، ويشتمل البعض الآخر على احكام الميراث.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على عواطف الاخوة وتأثيرها في النفوس وتوضح ما ينبغي في الاخوة من تعاطف وتراحم وتواد وتعاون .
ويستشهد الكاتب بعدد من الآيات القرآنية حول الاخاء، ثم يختم هذا الفصل بقوله: ·وفي ختام هذا الفصل من روابط الاخاء في القرآن الكريم نكرر دعاء السلف الصالح: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان,لاشك ان تأصيل مكارم الاخلاق في هذا الكتاب بربطها بآيات القرآن الكريم مما يسجل للمؤلف حيث يعد خطابا ميسور اللغة قريب الاسلوب يمكن للاجيال الافادة منه في بناء شخصية اسلامية ذات خلق كريم.
لمسة وفاء:
الوفاء من شيم الكرام، وتقدير العلم والعلماء والمثقفين والادباء الذين يحترمون علمهم وثقافتهم وادبهم سمة من سمات الخلق النبيل، ومطلب حضاري يؤيده الدليل الشرعي ·لا يشكر الله من لايشكر الناس .
ولاشك ان مكافأة صاحب الجميل بمثل جميله مما يتحقق به الخير للناس ومما تسعد به النفوس، ويدفعها الى تجدد العطاء.
وان من الوفاء لاهل العلم ان يكرموا في حياتهم عرفانا لهم بالجميل، وتوثيقا للصلة بينهم وبين الاجيال القادمة واثراء لتجربة الجيل الجديد، وتشجيعا له على سلوك السبيل، فاذا وضعنا في الحسبان ما نراه من تغير في انماط السلوك البشري، وانحدار في اخلاق كثير من اهل هذا العصر بسبب الانحراف في مفهومات الانسان الغربي للكون والحياة والخالق عز وجل، وهو انحراف انتقل عبر الوسائل المتطورة الى مجتمعاتنا الاسلامية، اقول: اذا وضعنا ذلك في الحسبان، ادركنا اهمية الربط بين اجيالنا الناشئة وبين اهل العلم والثقافة الاصيلة، ومن عرفوا بالمثابرة والعصامية والجد.
ونحن ْ المسلمين ْ من اولى الناس بترسيخ معاني الوفاء في النفوس ويكفينا ما نراه في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه الكرام والسلف الصالح من مظاهر الوفاء القائمة على تقدير العلماء وتوقير كبار السن، والاعتراف بالفضل لاهله، وهل قام الاخاء الاسلامي بين المسلمين الا على الوفاء والتقدير المنبثقين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وان مما يثلج الصدر ما يجري من تكريم لاهل العلم في بلادنا، وها هي ذي الرياض توضع في قائمة العواصم الثقافية باختيارها عاصمة للثقافة العربية لعام 1420هْ، 2000م وانها لجديرة بذلك، مؤهلة له، وها هو ذا الفريق الاديب ·يحيى المعلمي يختار ·الشخصية الثقافية لهذا العام ويقدم للاجيال الناشئة في المملكة بصفته واحدا من الاعلام الذين كان لهم دورهم البارز في الساحة الثقافية على مستوى المملكة والعالم العربي والاسلامي وتبرز بذلك صورة مشرقة للوفاء ليست غريبة على هذه البلاد واهلها المرتبطين بدين عظيم يعطي كل ذي حق حقه، وبصفات عربية اصيلة من ابرزها الوفاء والتقدير لمن يستحقه.
ان لمسة الوفاء هي الافق المضيء في حياة البشر، وهي البلسم الشافي لمعاناة النفوس، وهي النسيم النقي الذي يهب على القلوب فينشر فيها روح السعادة والارتياح، وهي التعبير الصادق والاسلوب الراقي الذي يوصل الى اصحاب العطاء ما تكنه لهم النفوس من التقدير.
لمسة الوفاء هي الواحة التي يتفيأ المخلصون ظلالها، ويقطفون من حلو ثمارها، ويغسلون آثار الظمأ بعذب انهارها، انها نبع العرفان الذي يحتاج اليه كل انسان.
رسالة: يا ابا عبدالله، اهنئك علْْْْْْْى هذا الاختيار، واعتذر اليك عما يبدر من التقصير، وارجو ان نسعد بكتاب ·عسكري ادبي تمتزج فيه الجندية بالادب، وتتعانق فيه تجربة الفريق والأديب فاني على ثقة انه سيكون كتابا متميزا ْ باذن الله ْ.
|
|
|
|
|
