| الاخيــرة
لقد استعجلت في رحيلك عنا يا أبا ياسر!
سافرت في رحلة طويلة ليس بعدها من رجعة!
وقد بقيت في يدي معاملتان لبعض المحتاجين,, لم تنجزهما بعد!
كنت أنوي أن أسلمهما لك عند استئناف الدوام بعد عطلة عيد الاضحى المبارك مباشرة!,.
لقد غادرتنا بلمحة عين نحن الذين كنّا نستعد لاقتحامك من جديد,, بعد الإجازة,, فأنت ْ أيها الحبيب ْ عودتنا أن نفعل معك ذلك دائماً,, فلا نجد الا البشاشة في وجهك,, والا البشر في عينيك,,
المعاملتان ماتزالان هامدتين فوق مكتبي,,واحدة تتعلق بأسرة شاعر سعودي معروف، والاخرى تتصل بأحد المعاقين المحتاجين، فأما أسرة الشاعر فإن كاهلها المنهك أضحى ينوء بتسديد بقية اقساط مسكنهم لدى البنك العقاري، وقد رحل عنهم ابوهم ْ رحمه الله ْ وتركهم زغب الحواصل لاماء ولاشجر,, وأما المعاق فيريد السيارة والكرسي الخاصين بالمعاقين لأنه يقوم بقضاء حوائج اسرته بعد ان فقد أباه وأخاه وهما كانا يقومان بهذه المهمات عنه قبل وفاتهما.
كنا نريد منك يا أبا ياسر ان تنجز هاتين المعاملتين بعد العيد مباشرة كما انجزت الكثير غيرهما طيلة عملك,, وطيلة عمرك,, ولكنك استعجلت الرحيل,, ذهبت الى مكان بعيد لن تعود منه إلينا أبداً!
تعلم أنني لم اكتب عن اي شيء مما كنت تفعله أثناء حياتك لأنني كنت أعرف أن هذا يزعجك ويؤذي أحاسيسك,, فقد كنت تريد أن يتم كل شيء في صمت ليكتمل أجرك عند الله,, ولتبلغ من المثوبة اقصاها عند البارىء العظيم,, هذا فضلاً عن أنك كنت زاهداً كل الزهد في الطبل والمزمار,, وفي المباخر والأنوار الكاشفة.
أما وقد رحلت عنا ولن تعود فاسمح لي أن أنوِّه ببعض ماكنت تفعل من أعمال الخير لعل ذلك يكون قدوة لمن سواك من القادرين، سواء بأموالهم أو بنفوذهم!
الناس يعلمون ْ يا أبا ياسرْ أنك كنت طريقاً ميسوراً إلى وليِّ الأمر توصل اليه اصواتهم، وتسمعه همومهم، وتبلغه حاجاتهم, وهو ْ حفظه الله ونصره ْ كان سريع الاستجابة لاستغاثة الملهوفين، ولأنّات المرضى والمصابين، ولصرخة المحتاجين والمعوزين, ولهذا فالقريبون منك يشهدون لك - إن شاء الله - بأمرين، الأول: أن كثيرين من هؤلاء الناس كانوا يقصدونك مباشرة، والثاني: أن بعضهم كانوا يصلون اليك عن طريق اصدقائك ْ وأنا واحد منهم ْ فما كنت تتوانى في خدمتهم,, وفي الاخذ بأيديهم,, وفي ايصال مشكلاتهم الى من يجدون عنده دائماً الرأفة والرحمة والعطف والرعاية,, حتى كنا نظن أحياناً أن مثل هذه الاعمال الخيرة كانت تأخذ الجزء الأكبر من عملك ووقتك,, وحتى كنا نحسب دائما ْ نحن اصدقاءك ْ بأننا نثقل عليك بما نقدمه لك من مشكلات الناس وحاجاتهم,, ولم نكن نرى منك في اي يوم من الأيام أنك كنت تمتعض أو تتذمر أو حتى تمتنع عن الاهتمام بما نقدمه لك في هذا الطريق,, طريق الخير.
أما أنا شخصياً فقد كنت أحس أنك تحسن إليَّ مرتين: مرة عندما تتيح لي الفرصة بأن اشترك معك في عمل الخير عندما أوصل اليك حاجات الناس، ومرة أخرى عندما تجعل هؤلاء الناس يزيدون في إحسان ظنهم في علاقتي بك,, وهم كلهم إنما يأتون إليَّ طمعاً في حسن تلك العلاقة وصلابتها,, وأنت كنت تعلم يا أبا ياسر أنهم كانوا يأتون إليَّ وبعضهم لا أعرفهم ولم أقابلهم قط في حياتي,, لا، بل إن بعضهم يبعثون طلباتهم بالبريد أو عن طريق وسطاء فتنقضي حاجاتهم بمشيئة الله وتدخل السعادة والطمأنينة الى قلوبهم,, وهم لو قابلونا اليوم أو غداً في قارعة الطريق لم نعرفهم ولم ندرِ من هم,, لا أنا,, وبطبيعة الحال لا أنت كذلك!
بعضهم أرامل ,, وبعضهم أيتام,, وبعضهم معاقون,, وبعضهم معوزون,, وبعضهم مرضى,, وكل منهم له حاجته,, إن سكرتيري الأخ عبدالعزيز القريشي بُهت وبكى بكاء مرّاً عندما علم بوفاتك لأنه شاهد على ما كنت أرسله إليك عن طريقه، وهذا غير ماكنت أحمله اليك بيدي ,, لا، بل إن الأخ القريشي قال لي إنه هو شخصياً ْ من طرفه ْ كان يرفع اليك بعض الحاجات دون أن تأتي بالضرورة عن طريقي!
أجل,, هو وأنا كنا قد جهزنا لك مجدداً بعض الطلبات وبعض المعاملات لتنجزها للناس,, بعد هذا العيد مباشرة,, لكنك فاجأتنا برحيلك السريع والمباغت يا أبا ياسر,, وهاهي ْ اي تلك المعاملات ْ تقبع على مكاتبنا,, وكأنني اسمع اصوات اصحابها تنطلق من بين سطورها لاهجة بالدعاء لك بالمغفرة وحسن المآل,, وراجية المولى عز وجل أن يعوضنا ويعوضهم فيك خير العوض.
إنني أعلم ْ يا أبا ياسرْ أنه لن يرضيك أن أقول كل هذا عنك دون أن اذكر بالفضل والدك الثاني الذي علمك وأرشدك وصقلك وأخذ بيدك: معالي الشيخ محمد بن عبدالله النويصر,, فأنا أعلم حق العلم انه كان دائماً عوناً لك على فعل الخير,, وعلى ايصال اصوات الناس وحاجاتهم وطلباتهم الى وليِّ الأمر، وهو كان يشجعك على هذه الامور، ويدفعك إليها,, ويظهر ذلك جلياً من خلال القبول الحسن عنده ْ أمد الله في عمره ْ لكل ما تعرضه عليه، هذا فضلاً عن أنك كنت توجهني بعرض بعض الأمور عليه مباشرة فما كنت اجد عند ابي عبدالرحمن الاّ أكثر مما كنت أجده عندك من الاستجابة والاهتمام, إن أصدقاءك الذين احبوك ما من احد منهم الا وكان يفعل مثلما كنت أنا أفعل معك ,, فهم كلهم كانوا رسل خير للناس.
والآن يا ابا ياسر!,, رحلت أنت,, وبقينا نحن,, وابواب الخير ستظل - إن شاء الله - مفتوحة,, فنحن مجتمع بنيت علاقاته على الخير وعلى البر والتقوى.
انت تعلم ْ يا أبا ياسر ْ أنني لم اكتب عنك حرفاً واحداً أثناء حياتك ,, وهذا هو شفيعي عند الله والناس بأن ما اكتبه اليوم ْ بعد رحيلك ْ إنما هو خالص لوجهه تعالى,, فلا تشوبه أي شائبة من شوائب الدنيا أو أي غرض من أغراض النفس ,, لا أتزلف به اليك,, ولا أتقرب به منك,, فأنت اليوم في ذمة الله,, في عالم غير عالمنا,, عالم أنت احوج ما تكون فيه الى الرحمة والسكينة!,, فليسبغ عليك الاله العظيم من رحمته، وليكسوك من سكينته بأكثر مما أنت أهل له,, إنه سميع مجيب, قال الله تعالى :· إنك ميت وانهم ميتون .
رضينا بما قدر الله يا أبا ياسر , ·وماكان لنفس ان تموت الاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً,, الآية.
رحلت عنا رحيلاً مباغتا,, مفاجئاً,, وهذا تدبير فالق الحب والنوى الذي يقول في محكم كتابه :·إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي ارض تموت ان الله عليم خبير .
فلتهنأ إن شاء الله بما قدمت يداك.
ومثواك جنات الخلد,, أيها الغالي في حياتك,, والغالي في مماتك.
وختاماً,, سلام عليك,, سلام عليك,,!
سلام عليك إلى يوم يبعثون!
|
|
|