| مقـالات
قد يستغرب البعض من مخاطبتي لصاحب القلب الكبير الجواد الكريم الشيخ سليمان بن عثمان الفالح وهو المعني بهذا العنوان اقول قد يستغرب البعض من مخاطبتي له ْ حفظه الله ْ بالوالد ولكن لعل هذا الاستغراب يزول لدى اولئك البعض حينما يعرفون أني تتلمذت على يديه منذ اكثر من ثلاثين عاما، ولازلت اتتلمذ واتعلم منه حتى الآن، كيف لا وهو المعلم والمربي والموجه لي منذ بدأت الدراسة في مرحلة ما بعد المرحلة الابتدائية فكان نعم الاب ونعم المعلم ونعم الموجه الجأ اليه بعد الله في كل صغيرة وكبيرة، آنس اليه واستشيره في كل ما يجد لي في خضم هذه الحياة فكان لا يبخل عليّ برأي ولا يضن عليِّ بمشورة او نصح كما لو كنت أحد ابنائه حفظ الله الجميع,, لقد كان مشجعاً لي لمواصلة الدراسة بعد المرحلة الجامعية، وحينما اقلعت بي الطائرة الى الولايات المتحدة لمواصلة الدراسة كان يتعهدني بالسؤال ويتابع دراستي ويوجهني، بل إنه تجشم مشاق السفر بزيارتي هناك فكانت زيارة خير عليِّ وعلى الاخوة هناك حيث كنا بصدد إنشاء مسجد تقام فيه الصلوات بما فيها صلاة الجمعة بالقرب من الجامعة حتى ندرس فيها فلم يبخل علينا بنصح ولا بمشورة ولا بمساعدة مالية شخصية كما توسط للمشروع لدى الموسرين من معارفه حتى اقيم المشروع شامخاً بالقرب من جامعة دنفر بولاية كلورادو وسط الولايات المتحدة الامريكية.
وحينما هبطت بي رحلة العمل في جمهورية مصر العربية ملحقاً ثقافيا هناك لم ينقطع اتصال الشيخ بي ولا سؤاله عني بل إنه اخذ يزورني كل سنة,, وحينما انتقل والدي يرحمه الله رحمة واسعة الى دار المقر كان اكثر الناس مواساة لي واهتماماً بي ولا انسى تلك الليلة التي عدت فيها الى مقر عملي بالقاهرة بعد وفاة والدي يرحمه الله بأسبوع حيث كان أول من اتصل بي في تلك الليلة للاطمئنان على سلامة وصولي وكان بإحساس الوالد يحس بلوعة فراق والدي لي فأراد ان يؤانسني من لوعة الفراق والغربة,, وكان بذلك يهون عليّ ما أنا فيه بعد الفاجعة الأليمة حتى حلت بي بفقدان ابي فكان بمتابعته لي نعم الوالد بعد الوالد,, ومن هنا اتشرف بأن انعته بوالدي,, لذلك استميحه عذرا في هذه المقدمة التي رأيت انه لابد منها رغم انها لا تتناسب مع المناسبة ولا علاقة لها بموضوعي الذي انا بصدده والذي كتبت من اجله هذه المقالة ولأن الشيخ سليمان (حاتم هذا العصر) اكبر من ان اوفيه حقه او اتحدث عن صفة من صفاته المتعددة والنبيلة بمثل هذه العجالة ولكون المقام غير المقام والمناسبة غير المناسبة لذلك اعتذر عن الايجاز في الحديث عن ذلك الشيخ الجليل الذي يحتار الانسان اي انسان في اي من مناقبه يتحدث.
اعود الى الحديث عن ذلك المصاب الجلل وهو نبأ وفاة تركي بن سليمان الفالح الذي وافته المنية فجر يوم السبت 12/12/1420هْ فقد كنت والعائلة نتأهب لقضاء اجازة العيد في ربوع المنطقة الشرقية وعلى سواحلها الجميلة واذا بالأخ الفاضل والصديق الوفي ابراهيم بن محمد القناص يهاتفني صبيحة ذلك اليوم مهاتفة انقبض لها صدري واحسست بدمعة تنسكب من عيني من غير إرادة مني اذ لم اتعود ان اتلقى مكالمة من ابي محمد في مثل ذلك الوقت لذلك ادركت ان المهاتفة لأمر جلل وان المنية قد وافت الشاب (تركي) وهو الذي يرقد في غرفة الانعاش قبيل العيد وانه لا راد لقضاء الله وقدره فاسترجعت ولم امهله أن يخبرني بالفاجعة بل بادرته بترديد (إنا لله وإنا اليه راجعون) ولم ادخل معه بالتفاصيل بل اكتفيت منه بالسؤال عن متى واين سوف تقام عليه الصلاة رحمه الله ولم أزد وهو المفجوع بخال ابنائه واكثر من التصق به اثناء مرضه حيث صحبه في كل سفرياته العلاجية منذ داهمه المرض قبل سنة ونصف الى امريكا والأردن وسوريا.
لقد اختطفت يد المنون ابن العشرينات تركي بن سليمان الفالح وهو على عتبة التخرج من كلية الشريعة بجامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية,, لقد اختار كلية الشريعة وهو خريج الثانوية العامة بامتياز لأنه كان يميل الى دراسة العلوم الشرعية ليتسلح بعلوم الشرع من تفسير وتوحيد وفقه واصول وفقه فكأنه كان يعد نفسه ليكون احد الدعاة الى الله ليخرج الى هذه الحياة وهو على دراية والمام بهذه العلوم,.
لقد كانت طموحاته كبيرة ونظراته بعيدة ولكن القدر كان اكبر منه ومن طموحاته فلا راد لقضاء الله وقدره.
لقد حدثني من كان معه في رحلاته الى امريكا ان تركي لم ينس واجباته الشرعية وهو يتلقى اقسى انواع العلاج لمحاربة المرض الذي الم به فكان بمثابة الداعية الى ربه في غربته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وينصح ويوجه أَمَّ المصلين وخطب بهم في اكثر من صلاة جمعة في مسجد ابي بكر الصديق رضي الله عنه في مدينة رويتشستر بولاية مينسوتا حيث يوجد مستشفى مايو كلينك كما درس في مدرسة المسجد الفقه والتجويد فنعم العبد رحمه الله.
البقية ·ص33
لقد مات تركي ذلك الشاب الذي لم أره جزعاً من الموت او متبرماً من قضاء الله وقدره بل كان صلباً جلدا، الابتسامة لا تفارق محياه رغم ما يعانيه ويلف جسده الضعيف ذلك المرض المستعصي,, لم يكن هياباً من الموت او خائفاً من الأجل كما حدثني بذلك اكثر من مرة وإنما كان خوفه على والدته ووالده قلقاً على والده الذي ارتباطاته ومسؤلياته تهد الجبال,, رحمك الله يا تركي، لقد كنت ابناً باراً بوالديك محسناً لهما طيلة حياتك خلوقاً صالحاً متسلحا بالعلوم الشرعية التي قاربت على الحصول على اجازتها,, ولكن لا راد لقضاء الله.
الموت حق,, كل نفس ذائقة الموت,, ولكل اجل كتاب وهكذا حان الأجل وغيب الموت شبلاً يافعاً من ذلك الأسد الهصور فلم أره منذ ان داهم المرض ابنه الا صابراً محتسباً فعل الكثير من اجل انقاذ حياة ابنه وخسر الكثير وتحمل وتجلد وصبر فكان كالجبال الراسيات لم يهتز ولم ترتعش يداه وهو يحمل نعش فلذة كبده من على حافة القبر ولم ينبس ببنت شفة ولم تخر قواه وهو يحثو التراب على اعز الناس اليه ويتلقى التعازي والمواساة جوار قبر ابنه عصر ذلك اليوم.
لقد كنت ملازماً له يوم الوفاة والايام الثلاثة التي تلته فكان يستقبل المعزين بداره المتواضعة من اصحاب السمو والفضيلة والمعالي وكذلك الجموع الغفيرة من محبي الشيخ ومعارفه وما اكثرهم ويودعهم فرداً فرداً ناهيك عن الهاتف فلم ار الا رجلاً شامخاً كما لو لم يكن مفجوعاً ولا مكلوما,, لم ار دمعة واحدة تنسكب من عينيه ولا حشرجة في صوته,, اي رجل انت واي صبر تتسلح به يا أيها الوالد الجليل لا شك انه صبر المؤمن المحتسب وانعم به من صبر صبر المؤمنين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون,, طيلة ايام العزاء دلف الى داره العامرة المئات بل الآلاف فما وهن ولا استكان ولا ضعف يستقبل المعزين منذ الصباح الباكر الى ما بعد منتصف الليل دون كلل او ملل لقد كنت اراك يا شيخي الجليل جبلاً صامداً ولكن اعرف وانت المكلوم بأنك من الداخل موجع القلب ذاهل اللب منقطع الفؤاد ولكن من مثلك يا شيخ جئنا نعزيك بتركي واذا بك تعزينا وتذكرنا بقصة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه حمزة في موقعة أحد جئنا نواسيك بفقدان تركي واذا بك تذكرنا بموقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة ابنه ابراهيم (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا ابراهيم لمحزونون).
اي رجل انت وأي جبل أشم أنت وأي قلب كبير تحمل أنت بالأمس فقدت والدك رحمه الله واليوم فقدت ولدك بعد معاناة اليمة مع المرض لكليهما ومع ذلك كان موقفك يتمثل بالدعاء والصبر والرضا بقدر الله على ما سلبه منك بالأمس وهذا اليوم حتى الدموع التي تريح الباكين ويطفئون بها لواعج قلوبهم كانت عصية عليك فأي صبر هذا الذي تختزنه والحزن يغلي بين جوانحك غليان الماء في الإناء ولايمن عليك بدمعة واحدة تطفىء بها غليلك كما اشار الى ذلك احد الاخوان ليتني املك قيثارة الشعر فأنظم مشاعري ابياتاً تليق بهيبة حزنك وحزن والدته أم سلطان وحزن اخوانه واخواته واعمامه وكل محبيه.
لست يا والدي الوحيد الذي هزه المصاب الفادح الجلل واخرسته المصيبة واسكته الحزن.
فالكل يا والدي بكاه معك,.
والكل يا والدي فقده معك,.
والكل يا والدي فجع برحيله مثلك.
نشاطرك الحزن وندرك عمق الاسى على فراقه كما ندرك عمق الأسى والالم الذي يحوط والدته ومدى لوعتها على فراقه وكذلك اخوته نايف وبندر وسلطان وعبدالله وماجد وكذلك اعمامه احمد والعميد البحري محمد والاستاذ عبدالعزيز وعبدالرحمن واخوتهم والاستاذ الفاضل الخلوق رفيق دربه وصهره ابراهيم بن محمد القناص والأسرة الكريمة,, إن خير ما اعزيك به ووالدته واخوانه واعمامه والأسرة الفاضلة هو عزاء النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل معاذ بن جبل عندما فقد ابنه إذ كتب اليه الرسول صلى الله عليه وسلم ·من محمد رسول الله الى معاذ بن جبل فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فأعظم الله لك الأجر والهمك الصبر، ورزقنا وإياك الصبر فإن انفسنا واموالنا وأولادنا واهلينا من هبات الله الهنيئة وعواريه المستودعة، يمتع بها لأجل محدود، ويضبطها لوقت معلوم، ثم فرض علينا الشكر إذا اعطى والصبر إذا ابتلى فإن ابنك هذا كان من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كبير فالصلاة والرحمة والهدى إن احتسبت، فاصبر ولا يحبط جزعك أجرك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئاً ولا يدفع حزناً وما كان نازلاً فقد كان .
لم يبق لي ما اقوله بعد هذا العزاء النبوي إلا الابتهال الى المولى جل شأنه أن يتغمد الفقيد بواسع رضوانه وان يمطر عليه شآبيب رحمته وغفرانه وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهم والده ووالدته واعمامه واخوانه الصبر والسلوان, إنا لله وإنا اليه راجعون.
د, سليمان بن عبدالرحمن العنقري
|
|
|
|
|