صباح يوم الأحد كان غير صباح,, أيها الاصدقاء!
تذكرون!
فقد كنا يومها مجندلين في زوايا منزل عبدالوهاب غارقين في دموعنا وفي ذهولنا!
ذلك الذهول الذي حبس أنفاسنا في الصدور,, وأوقف دماءنا في العروق,, وشلّ فينا كل شيء,, كل شيء في الفضاء أمامنا كان مشلولاً,, وغير قادر على الحركة!
لم يعد هناك اسكندرية!,, أيها الاصدقاء!
الاقلاع اليها كان من المفروض أن يتم الآن!,, ولكن عبدالوهاب ذهب الى مكان آخر اختاره له البارىء العظيم,, وهو لن يستطيع أن يأخذكم معه الى هذه الرحلة كما وعدكم,, ها هو يخل بوعده لكم لأول مرة,, وها هو ·ترتيبه ·يتلخبط لأول مرة أيضا.
الملك لله!,, الواحد الأحد!
لقد جمعكم من جدة ومن المنطقة الشرقية ومن الرياض: حمد الفارس، زايد السكيبي، د, فهد العبدالجبار، محمد السماعيل، د, حمد العرينان، د, سعدي الطاهر جمعكم كما عودكم دائما ولكنه ترككم في بيته ورحل!,, حيل الله اقوى!
لقد تعودنا جميعا أن نلتف حول عبدالوهاب,, في الرياض,, في جدة,, في لندن,, في مربيا,, وفي أي مكان فوق هذا الكوكب,, كان هو الذي يجمعنا,, وكان هو الذي يفرقنا!,, ولولا ظروف عملنا,, ولولا ظروف عمله,, لما غادرنا ولما غادرناه قط,, نحن كنا نلاحقه أينما ذهب,, وهو كان يلاحقنا أينما نذهب!,, كان دائما موجوداً معنا,, يتدخل بحب في كل شؤوننا,, حتى ترميمات منازلنا كان يتدخل فيها عبدالوهاب,, يقترح عامل الدهان,, ويقترح السباك,, ويقترح عامل البلاط,, ويقول رأيه في الديكور ونوع الفرش,, كان يشرف بنفسه على مثل هذه التفاصيل,, وكان يزور الموقع ونحن موجودون وغير موجودين,, وإذا لم يعجبه شيء غيّره دون أن يستأذننا,, فهو كان يحس دائما بأنه ·صاحب محل وله كلمته في كل ما نفعل,, وعن مثل هذه الأمور خصوصاً اسألوني أنا,, واسألوا فهد العبدالجبار,, واسألوا عبدالله اللحيدان,, لقد تابع بنفسه عقود بعض الاعمال في منازلنا
لم يكن يستأثر لنفسه بأي شيء عنكم ابتداء من التمر والرز والفاكهة الجديدة,, وانتهاء بالادوية التي تصله من أمريكا وفرنسا وغيرها,, هذا دواء جديد للزكام,, وهذا دواء للسعال,, وآخر لتخفيف الوزن,, وآخر للمساعدة على الهضم,, كان يوزعها علينا معه بالتساوي! ويعلمنا متى نأخذها,, ومتى نمتنع عنها.
تذكرت بعض هذه الأمور الصغيرة/ الكبيرة وأنا عائد من المطار مع صديقه عبدالرحمن بن سعد الراشد رجل الأعمال المعروف,, وقلت له: حتى الحطب الذي تتدفأون به عندي في الشتاء يختاره ويرسله لي عبدالوهاب,, التفت إليّ عبدالرحمن الراشد وهو يضحك ويبكي في الوقت نفسه قائلا: وأنا أيضا يا فهد,, فالحطب الذي تتدفأون به في منزلي هو من عبدالوهاب!
أجل!,, كنا نشاركه في كل شيء عنده,, دون ان نسأله ذلك,, ودون ان نبدي اليه حاجتنا الى أي شيء من مثل هذا.
هل أزيد؟! لقد كان عندما يجيء الى منزل أحد منّا للغداء او للعشاء يحضر الينا ومعه طبق او طبقان أعدتهما أم ياسر أو طباخته المغربية لنشاركه فيها!
لابد أيها الأصدقاء أن نعترف بأن أحداً منا لم يكن يفعل مثله,, ليس لأن ما كان يفعله كان مكلفا أو معجزاً لأي أحد منا,, لكن لأننا كلنا كنا أقل منه حساسية,, وأقل منه شفافية,, انه يفكر في تفاصيل لا ترد على بال أي أحد منا!,, إنها تفاصيل كانت تضحكنا أحيانا لكنها كانت دائما تمس منا شغاف القلوب,, لهذا أيها الاصدقاء تذكرون,, وتذكرون جيدا,, أننا عندما تجمعنا نبكي في منزل عبدالوهاب يوم وفاته,, قلنا كلنا,, وبفم واحد: لقد مات ·أبونا عبدالوهاب!,, انه لم يكن صديقا، بل كان أباً، ومن يا ترى يتصرف مثل هذه التصرفات - البسيطة في ظاهرها العميقة في معناها - غير ·الأب ؟!,, وما دمنا نتحدث عن الأبوة فأنتم تذكرون,, وتذكرون جيدا,, أنه عندما ألمت ببعضنا نحن أنفسنا - بعض الأمراض التي ليست سهلة كان عبدالوهاب وراء العلاج في الداخل,, وفي الخارج,, وهو كان دائما وراء سماعة التليفون بالليل وبالنهار,, هذا فضلاً عن انه كان يسدّ مسدّ صاحب البيت في اهله وفي أولاده من بعده,, وحتى في بعض الاعمال الخاصة التي كانت تحتاج الى متابعة وانجاز فترة غياب المريض! فعبدالوهاب كان يقوم بها بكل رضى وطمأنينة, لا أريد ان أكون متشائماً,, ولا أريد الا ان أحسن الظن بالناس وبالزمان,, ولكن أين منا أصدقاء من هذا الطراز الفريد في الأرض؟!
إنني لا أبالغ أبداً فهذه الأمور تعرفونها جميعكم عن عبدالوهاب ولا سيما منكم من ذكرت أسماءهم في هذه المقالة!,, إنه ميت,, وأنكم أحياء فهل قلت هنا غير ما هو حق؟!
رحمك الله يا أبا ياسر!,, لم تكن أكبرنا سناً ولكنك كنت حتماً اكبرنا قلباً!,, ولابد ان ننصفك فيما كنت تفعله او تقوم به من أجلنا نحن أصدقاءك!
شيء آخر!,, وهو انه يحدث بين الاصدقاء أخطاء,, أو سوء فهم,, او زلّة لسان!,, وقد نغضب من بعضنا البعض,, وقد نؤاخذ بعضنا البعض,, فأودّ ان اسألكم يا أصدقاء عبدالوهاب,, طيلة السنوات التي عرفتموه فيها,, هل سمعتم منه ما أغضبكم او كدّر خواطركم,, جداً او هزلاً,, صدقاً او مزاحاً؟! انا أجيب عنكم هنا ليعرف الناس ذلك عن الفقيد: لا والله لم يحدث هذا قط! والله على ما أقول شهيد,, وانتم أيضا على ذلك من الشهود العدول ان شاء الله!
إن لعبدالوهاب تعبيراً معروفا لدى اصدقائه يقوله عندما يسمع اقتراحا من أحدنا فلا يوافق عليه,, وهذا التعبير هو ·نشوف! ان هذا هو أقصى ما كان يمكن ان يعلق به على ما يسمع مما لا يروق له، فهو يخشى ان تجرحنا كلمة ·لا او ·معصي .
وإن لعبدالوهاب تعبيرا آخر معروفاً عندما يسمع من احدنا رأياً لا يستسيغه,, وهذا التعبير هو ·انكشح وهذا هو أقسى ما كنا نسمعه من عبدالوهاب للاعتراض على بعض ما نقول, رحمك الله يا أبا ياسر,, فأنت لم تكن أكبرنا سناً ولكنك ورب الكعبة كنت أكبرنا قلباً!
وأقول بلسان كل اصدقائك الذين عاشروك وعاشوا معك: إن فقدك علينا عظيم,, أي والله عظيم!
|