| أفاق اسلامية
لقد حفظ الإسلام للمتهم ·المدّعى عليه كل الحق في الدفاع عن نفسه، وضمن له حقوقاً كثيرة نوجزها فيما يلي:
أولاً: الأصل ألا تسمع الدعوى عليه ولا يقضى بها إلا في مواجهته وحضوره مادام ذلك ممكنا:
ولذلك نجد آيات كثيرة من القرآن الكريم تدعو أولياء الأمور إلى أن يحكموا بشرع الله، وذلك مثل قوله تعالى ·وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ·المائدة/49 .
كما تأمر الآيات المتنازعين بالتحاكم إلى شرع الله، وذلك مثل قوله تعالى: ·فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ·النساء/ 65 .
وهذان الأمران لا يتمان إلا بحضور المتخاصمين الى مجالس الحكم، ويكاد الفقهاء يتفقون على ان الغائب عن مجلس الحكم، الحاضر في البلد او الذي يمكن احضاره دون ضرر كبير لأي من الطرفين لا يصح الحكم إلا بعد احضاره ·تحفة المحتاج ج 10 ص 186، كشاف القناع ج 4 ص 209 .
وبناء على ذلك وجب على المدّعى عليه تلبية نداء الحاكم ·القاضي والحضور الى مجلس القضاء إذا دعاه القاضي إليه، وذلك لقوله تعالى ·يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا ·النساء/ 59 .
وقد روي عن كثير من الصحابة ان أولي الأمر في الآية هم الأمراء، وممن روي عنهم ذلك أبو هريرة وابن عباس وغيرهما، ولقد رجح الطبري ذلك ·تفسير الطبري ج 8 ص 503 .
وإجابة المدّعى عليه دعوة القاضي واجب ديني، لأن واجب الحكم بالعدل لا يتم إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم هي كذلك واجب دنيوي، يترتب على التخلف عنه جزاءات دنيوية منها جواز تعزيره من قبل الحاكم الداعي، ومنها جواز القضاء عليه مع غيابه عند جمهور الفقهاء ·القوانين الفقهية ص 9287 .
ويرى بعض الفقهاء جواز سماع البينة على الغائب، ولكن لا يقضى عليه إلا بعد إعلامه ودعوته الى مجلس القضاء، فإن امتنع وتعزز كان هذا عذراً مبيحاً للقضاء عليه كي تُسد الطريق على جميع من يحاول ظلم الناس وهضم حقوقهم بالمماطلة والحيلة والامتناع عن مجلس القضاء، كما يجوز القضاء على الغائب لضرورة ظاهرة كما في حالة القضاء على المفقود.
ثم إنه قد يوجد لدى المتهم عذر يمنعه من الحضور الى مجلس القضاء، وذلك بأن يكون مريضاً او نزيل إحدى المستشفيات، او سجيناً، أو امرأة غير برزة، يضرها الحضور الى مجلس القضاء وفي مثل هذه الحالة لا يقضى على المتهم إلا بعد مواجهته بالدعوى والاستماع إليه.
فعن أبي هريرة أن رجلاً جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابني كان عسيفاً ·اجيراً على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمئة شاة وخادم، وإني سألت رجلاً من أهل العلم فأخبرني ان على ابني جلد مائة وتغريب عام، وان على امرأة هذا الرجم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ·والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها ·البخاري بفتح الباري ج 13 ص 157،158، مسلم بشرح النووي ج 11 ص 206، 207 .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستدع المرأة الى مجلس القضاء ولكنه أرسل إليها من واجهها بالدعوى ليسمع منها، فلما اعترفت قضى عليها.
ثانياً: جعل الشارع البينة الضعيفة على المدّعى عليه:
وأساس ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ·لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدّعى عليه ·الجامع الصحيح للترمذي ج 3 ص 626 ،627 .
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ·لو يُعطى الناس بدعواهم يوضح ان المدّعى لا يُعطى بدعواه، ولا يكتفى بها في الحكم له، بل يلزمه مايدعم به دعواه وهو البينة أو الحجة الشرعية.
والحكمة من فرض البينة على المدّعي وإلقاء عبء الإثبات الثقيل عليه انه يريد تغيير الوضع القائم والحالة الراهنة والظاهر المسلّم به، لأنه يدعي حقاً خفيا, والشارع الحكيم يهدف الى استقرار المعاملات ومنع النزاع والمخاصمات، فجانب المدعي إذا كان ضعيفاً وموقفه واهن لادعائه خلاف الأصل الظاهر ولهذا كلفه الشارع بالحجة القوية والدليل المجرد (انظر المقدمات الممهدات لابن رشد ج 2 ص317).
أما المدعى عليه فقد قوى جانبه لموافقته الأصل والأظهرة مثل براءة الذمة واحتياجه الى استمرار الحالة القائمة: ويفترض الشرع والعقل فيه الصدق، ويقبل قوله فيكتفى منه باليمين: وهو حجة ضعيفة لبقاء الظاهر.
وإنما كانت البينة حجة قوية واليمين حجة ضعيفة لأن البينة صادرة من غير المتخاصمين، ولا تعود بالنفع على القائم بها، فكان لها قوة الإظهار, أما اليمين وإن كانت مؤكدة بذكر الله تعالى فإنها كلام الخصم، فلا تصلح حجة مظهرة للحق، وإنما تكفي في استصحاب الحال, ·حاشية البجيرمي ج 4 ص 327، وبدائع الصنائع ج 6 ص 225، سبل السلام ج 4 ص 132 .
قال الحنفية: والحكمة في كون اليمين على المدّعى عليه ان المدعي يزعم إتواء حقه بالانكار، فكان الاستحلاق من حقه، فإن كان المدعي صادقاً كما زعم كان اليمين إتواء وإهلاكا لصاحبه في مقابلة الإتواء بالإنكار، لأن اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع، وإن كان المدّعى عليه صادقاً كسب الثواب في ذكر الله تعالى، ولا يتضرر منه ·شرح العناية على الهداية ج 6 ص 152
عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ·شاهداك أو يمينه , قلت: إنه اذا يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ·من حلف على يمين يستحق بها مالا، وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ·إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلاً الآية آل عمران 77 ·مسلم بشرح النووي ج، ص 158 .
أما اذا امتنع المدّعى عليه من اليمين بعد ان طلبها الخصم، فإنه يحكم عليه بالنكول، وهو مذهب الحنفية والمشهور عند الحنابلة، أو ترد اليمين الى المدّعى، فإن حلف حكم له القاضي باستحقاق المدّعى عليه، وهو مذهب الجمهور من الشافعية والمالكية وقول عند الحنابلة وصوبه أحمد، وهناك قول ثالث بالتوقف, ·بدائع الصنائع ج6 ص 225، 230، القواعد لابن رجب ص 245
ونرى أن هذه مسألة يرجع تقديرها الى القاضي، فإن ترجح عنده ان يقضي على المدّعى عليه بالنكول لقرائن ظهرت له قضى به، وإن رأى ان يرد اليمين على المدّعي حتى يقضي له فعل، وان تساوت القرائن ولم يستطع الترجيح توقف.
ثالثاً: أمر الشرع القاضي بإعطاء الفرصة لكل من طرفي الدعوة لتقديم ما لديه من حجج.
والأصل في ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ·بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اليمن قاضياً، فقلت: يارسول الله: ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ·إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى ان يتبيّن لك القضاء , قال علي: فما زلت قاضياً، أو ما شككت في قضاء بعد, ·الجامع الصحيح للترمذي ج 3 ص 618، وانظر تخريجه في نصب الراية ج 4 ص 61،62 .
ولقد ورد ان خطأ داود عليه السلام وفتنته في القضاء كانت في انفعاله السريع بعد سماعه من أحد الخصمين فسارع بالقضاء دون ان يستمع الى الطرف الآخر.
ولقد جاء في الحكمة قولهم ·إذا جاءك أحد الخصمين وقد فقئت عينه، فلا تقض له، فلعل الآخر فقئت عيناه .
وبناء على ذلك اصبح من المبادىء المقررة في الفقه الإسلامي ان لكل من طرفي الدعوة حق الإدلاء بحججه في مجلس القضاء من غير إساءة للقاضي أو للطرف الآخر، ونص الفقهاء على أنه ينبغي على القاضي ان يعطي كلا الخصمين الوقت الكافي لتحضير حججه او دفوعه، أو اكمالها، فاذا طلب المدّعى عليه مثلاً إمهاله ليأتي بالوجه الذي يرد به على بينة خصمه وجب على القاضي إعطاؤه من الوقت ما يكفي لذلك حسب اجتهاده ·تبصرة الحكام لابن فرحون ج 1 ص 47، المبسوط للسرخسي ج 16 ص 62، الشرح الكبير للدردير ج 4 ص 146،147، المغني لابن قدامة ج 9 ص 88 .
ولاشك ان اعطاء المدعى عليه كل الحق في الإدلاء بحججه في مجلس القضاء يُجلي الحق، ويكون كما قال عمر بن الخطاب أجلى للعمى وأبلغ للعذر.
غير انه لا ينبغي ان يُفهم من هذا المبدأ أننا نعطي الفرصة للمتهم في التهرب، بالمماطلة، او السكوت بحيث يُصر على عدم الإقرار والإنكار معا، وبذلك لا يمكن معرفة وجه الحق والحكم به، ولذلك قال بعض الفقهاء: إن المدّعى عليه إن لم يجب على دعوى المدّعي باقرار او انكار حُبس وأدِّب: فإن اصر على عدم الجواب حكم عليه بالحق، لأن الإصرار على ذلك في قوة الإنكار, ·الشرح الكبير ج 4 ص 151 .
رابعاً: اعطى الشرع عليه الحق بالدفع بكل وجه ممكن:
إن المدعى عليه كي يبطل ادعاء خصمه يسمح له ان يقيم البينة بالنفي، وذلك إذا كان النفي معلوما بالضرورة، ويحيط به علم الشاهد، ويكون النفي منضبطاً محصوراً، او يضاف الى وقت مخصوص او مكان معين أو حالة محددة ·انظر أمثلة لذلك في وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية الدكتور محمد مصطفى الزحيلي ص 79 وما بعدها , مكتبة دار البيان الطبعة الأولى 1402ه 1982م .
ويمكن للمدّعى عليه ان يدفع دعوى المدّعي بالدفع الموضوعي، او بدفع الخصومة,
ومثال الدفع الموضوعي: ان يدًعى المدعي ملكيته للعين التي في يد المدعى عليه، فيدفع المدعى عليه بإثبات انه اشتراها منه وقبضها، أو أنها وصلت إلي يده بأي سبب شرعي من أسباب الملكية.
وفي هذا الدفع يتعرض المدعى عليه لصدق المدّعي او كذبه، وحين يثبت دفع المدعى عليه يترتب عليه وضع حد نهائي لمطالب المدعي، ومنعه من التعرض ثانية للمطلوب, ·المنهاج وشرح المحلي وحاشية قليوبي ج 4 ص 327 .
أما دفع الخصومة فيقصد به دفع خصومه المدعي، دون التعرض لصدقة او كذبة في دعواه، ومثال ذلك ان يدعي المدّعي ملكيته للعين التي في يد المدعى عليه، فيثبت المدعى عليه ان يده على العين ليست يد خصومه، وانه قد استأجرها او استعارها من فلان الحاضر او الغائب, وإذا ثبت ذلك حكم القاضي بأن لا خصومة بين المتداعين، دون تعرض للمكلية اصلاً، وللمدّعي ان يدعي ملكية االعين على الخصم في اي وقت بعد ذلك ·نظرية الدعوى بين الشريعة الإسلامية وقانون المرافعات المدنية والتجارية للدكتور نعيم عبد السلام ياسين ج 2 ص 155 .
* رئيس الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام أباد أ, د حسن محمود الشافعي*
|
|
|
|
|