| مقـالات
لا يختلف اثنان من المطلعين على كنوز التراث الاسلامي من الكتب والمؤلفات التي خلفها جهابذة علماء الاسلام، انها غنية بالنفائس العلمية واللطائف المنهجية التي يحتاجها عامة الناس، وطلبة العلم على وجه الخصوص في كل زمان ومكان.
ومن ذلك ما ذكره الامام الجليل أبواسحاق الشاطبي المالكي في كتابه القيم ·الموافقات من كلام نفيس يؤكد فيه أهمية التفريق بين ما يطلب نشره من العلم وتحسن اذاعته بين الناس، وما ينبغي التأني في نشره، أو يحسن عدم نشره بالكلية لعامة الناس مخافة أن يفهموه على غير الوجه المقصود منه، أو يساء الظن بقائله وكاتبه خلاف مراده ونيته.
يقول الشاطبي رحمه الله·فصل,, ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره, وان كان من علم الشريعة، ومما يفيد علما بالأحكام بل ذلك ينقسم؛ فمنه: ما هو مطلوب النشر؛ وهو غالب علم الشريعة, ومنه مالا يطلب نشره باطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة الى حال أو وقت أو شخص,, أ,ه,ج4 ص189.
ولقد تذكرت حال قراءتي لهذا الكلام الجميل، المثل السائر ·ما كل ما يعلم يقال وتمنيت ألا يغيب هذا المعنى عني ولا عن الكثير من طلبة العلم، ممن يتصدون للدعوة باللسان والقلم على مستوى العموم.
وعند تأملي لهذا الكلام المفيد تداعت في مخيلتي الأصداء التي تحصل عند العامة اذا نشر لهم شيء من مسائل الخواص التي تكون بين طلبة العلم، وتحصل نتيجة المتابعات والنقاش والردود العلمية، حيث انها تعامل عند الخواص بأسلوب قد لا يستوعبه العامة، لأن طلبة العلم يفهمونها في اطارها المحدود، وربطها بمنهج قائلها، وردها الى طريقته ومذهبه في الاستدلال والاستنباط.
بينما يراها الآخرون مآخذ كبيرة تصادم ما عرفوه، وربما شوشت أفكارهم، وأحدثت بينهم أخاديد من الجدل العقيم والمناظرات الجافية التي تفرق ولا تؤلف، وتنتج الشحناء والنزاع والتشرذم.
ولاح في ذهني حال هذا السياق الأثر البليغ المروي عن الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ·حدثوا الناس بما يعرفون,, أتريدون أن يكذّب الله ورسوله,, ثم استحضرت بجلاء القاعدة الشرعية الجليلة التي وردت في كتاب الله العزيز، وتدعو الى قصر المسائل المهمة على الخاصة من أهل العلم والريادة، دون العامة، حتى لا يقع التشويش والإرجاف, وليتسنى لأهل الاختصاص معالجة المسائل وفق المنهج الشرعي وضبط الأمر والاستنباط منه في حدود القادرين عليه دون خوض العامة فيه؛ يقول تعالى في سورة النساء الآية 83:(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه الى الرسول والى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم,,) الآية.
ولا ريب أنه قد يحصل لشخص معرفة خاصة بأمر مهم، وقد يقع له قناعة برأي معين، قد يمس الآخرين، ويراه هو يسيرا في اعلانه، لكن الآخرون لو رأوه منشورا قد يستعظمونه ويخالفونه فيه، ولاشك أنهم سيعاملونه بظاهر الأمر،وليسوا مطالبين بالاحتكام الى قصد القائل أو فهمه أو مراده.
لذا يتعين على كل عاقل أن يتأنى كثيرا قبل ولوج هذه المسالك الوعرة التي ربما كان فيها من الفتنة والاثارة للناس ولصاحبها على وجه الخصوص مالا يعلم عواقبه إلا الله تعالى.
وما دام أنه ما كل ما يعلم يقال، فما كل أمر يصلح تداوله بين الخاصة يمكن طرحه على العامة في منابر الخطابة أو من خلال وسائل الاعلام، ذلك ان عموم الناس قد يفهمون الكلام على غير وجهه، ويفسرونه بتفاسير مغايرة لمراد كاتبه أو قائله، فتكثر الأقاويل، ويحتدم الجدل، والمتسبب هو من نشر أو اذاع ولم يحسن الأسلوب، وكذا لم يستصحب قواعد الشرع في أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، وسد الذرائع الموصلة الى المفاسد، ولا يزال العاقل يستفيد من تجاربه وتجارب الآخرين حتى يوضع في اللحد والله المستعان.
* خطيب مسجد الإمام محمد بن سعود بالدرعية
|
|
|
|
|