لما وقفت يا ياسر على باب الطائرة القادمة من أمريكا قبل يومين، كنت ْ انا ْ لا أكاد اتبين ملامحك,, وكنت ْ أنت ْ تغرق الى ما فوق هامتك في دموعك وفي حزنك!.
سبحان الله يا ياسر كان يقف إلى جانبك أبوك عبدالوهاب ,, كانت ملامحه لحظتها اشد وضوحا من ملامحك,.
أجل!,, صدقني انه كان معنا في المطار,, يقف ْ بالضبط ْ الى جانبك,, يقول لك: هؤلاء هم اصدقاء ابيك احضنهم يا ياسر وهم سيحضنونك,, الق برأسك فوق صدورهم فهم سيحبونك كما أحبوني,, لم يكذب أبوك يا ياسر فنحن والله سنحبك كما أحببناه,, وسنكون معك كما كان هو دائما معنا!.
هل تدري لماذا رأيت المرحوم,, يقف الى جانبك عند باب الطائرة؟,, رأيته كذلك لأنك انت خليفته في أهله,, ولأنك تشبهه في وسامته,, وفي عمقه,, وفي إقباله على الحب والحياة!.
وتذكرت لحظتها يا ياسر أول لقاء لي بأبيك عبدالوهاب,, كان ذلك في شتاء عام 1972 في باريس,, لقد كان يشبهك اليوم,, كان يدرس المرحلة الجامعية في مدينة نيس وكنت أجيء أنا الى فرنسا لدراستي العليا,, كان وسيماً مثلما هو يوم وفاته,, وكان مشرقاً مثلما هو يوم غادر هذه الدنيا,, منذ ذلك اليوم يا ياسر وأنا احتفظ له في أحشائي بحب متدفق لم ينضب,, أحببت فيه عقله، وهدوءه، وعفة لسانه، وصبره على الغيظ، وصفحه عن الإساءة، وحماسته للخير ,, وحبه لكل الناس.
لم أره بعدها إلّا يوم ان أكملت دراستي فاستقبلني في جدة بكل ما عهدته فيه من الوفاء,, كان يسألني عما سأفعل؟ وعما أخطط له لحياتي ولأولادي!,.
هل قلت الوفاء؟! أجل قلت ذلك!.
إن لأبيك عبدالوهاب مع هذا الخلق النبيل قصصاً لا تحصى يا ياسر فلقد ظل يفاجئنا ْ الى ان مات ْ بزميل دراسة له في الابتدائية,, او زميل في الثانوية,, أو في الجامعة,, من قطر,, من المغرب,, من سوريا,, من أمكنة كثيرة في هذا العالم!,, يراسلهم,, يهاتفهم,, يدعوهم الى منزله,, يأخذهم معه الى منازلنا,, بعد كل حين وحين نحن على موعد مع مفاجأة من مفاجآت عبدالوهاب,, وكل تلك المفاجآت هي زملاؤه أو اصدقاؤه أو أساتذته,, لقد دفعنا الى حبهم جميعا لما كان يغرقهم به هو من الحب!.
كنا نحس دائما يا ياسر أن هذا الوفاء وهذا الحب الذي يفيض به أبوك على أصدقائه وزملائه هو قليل امام ما يحتفظ به لك انت ولأسرته وأهله وذويه,, كنت انت وإخوتك وامك,, وكان أبوه واخوته وامه,, هم جميعا شغله الاول والأخير.
كان شديد القلق على صحة الوالد محمد والوالده,, كان شديد القلق على مستقبل إخوانه وأخواته كلهم.
كنت أنت واخوتك وأمك البيت الاثير الذي يجد فيه روحه وحقيقة كينونته!,, نحن ْ أصدقاءه ْ نعرف عنه ذلك لاننا نعرف كيف كان يفكر,, ولاننا نحس بنبرة الصدق عندما كان يتحدث عنكم,, او عندما كان يعطينا بعض تصوراته لمستقبلكم.
كان يريد ان يبني لكم مستقبلا من حرير!,, أو من زمرد,, او من ياقوت!.
كان يعيش لكم,, ولنا,, وللناس.
لكل هذا كنت أراه يقف الى جانبك وانت تقف على باب الطائرة القادمة من أمريكا وانت تغرق الى ذؤابتك في الحزن وفي الدموع!.
كنت أراه يقف الى جانبك لانني قبل وفاته باربع ساعات فقط كنت الى جانبه في مزرعته في الدرعية مع بعض اصدقائه,, هل تريد ان اقول لك كيف كانت حالته في تلك الليلة الاخيرة,, العشاء الاخير,, اللقاء الاخير؟!,, كان كعادته يا ياسر يفيض بشرا وحباً وحيوية,, كان يضحك ملء الارض والسماء,, وكان يفرح ويمزح ملء الارض والسماء أيضا,, كل الحاضرين كانوا جاهزين للذهاب معه صباحاً الى الاسكندرية لقضاء اجازة قصيرة,, وكنت أنا الوحيد الذي لا يريد الذهاب الى هناك,, ثم ودعناه عند منتصف الليل، وفي الصباح وجدت عند خادمتنا المنزلية اربع رسائل من عبدالوهاب، كما تقول الخادمة، وكلها تؤكد ضرورة أن أكلمه في التليفون عاجلاً,, لم يكن يدور في ذهني انه غادرنا الى الدار الآخرة يا ياسر ,, كنت احسبه سيلح عليّ من جديد بالذهاب معه الى الاسكندرية,, فلم ارد على رسائله,, لم أكلمه في التليفون,, أي (جمّدته) كما يحب أن يمازحنا عندما لا يرد أحيانا على بعض رسائلنا له,, وبعد دقائق كنت أتلقى صوت الصديق الاخ عبدالله اللحيدان في التليفون يقول لي بأنه هو وبعض الاصدقاء هم الذين تركوا لي تلك الرسائل عند الخادمة باسم عبدالوهاب وهم كانوا يريدون مني أن أحضر الى منزل عبدالوهاب فوراً,, لم يكن أبوك يا ياسر هو الذي ترك لي تلك الرسائل كما زعمت الخادمة بل اصدقاؤه واصدقائي هم الذين تركوا تلك الرسائل باسمه لانهم يريدون ان استعجل في الاتصال ,, اما عبدالوهاب نفسه فقد مات,, مات منذ الفجر.
لك أن تتصور يا ياسر كم كان حجم الكارثة التي كانت تصك أذني وقلبي وكياني!,, وانا استمع الى هذه الكلمات من الأخ اللحيدان!.
قبل ساعات فقط كنا معا!,, قبل ساعات فقط كان عبدالوهاب يحتفي بأصدقائه,, ويمازحهم ويداعبهم ويعدهم ببضعة ايام من الفرح والحبور تبدأ بعد ساعات في بحر الاسكندرية!.
لقد رحل عبدالوهاب الى مكان آخر,, وتركهم أيديهم على حقائبهم,, ينتظرون ان يأخذهم الى الاسكندرية,.
يا أمان الخائفين!، سبحانك لا إله إلا أنت! شئت,, وما قدرت فعلت!
لهذا كان أبوك عبدالوهاب مايزال حاضراً في وجداني وصدري وعيني,, وكان يقف الى جانبك على باب الطائرة التي أقلَّتك من أمريكا,, كان يبكي,, وانت تبكي,, ونحن كلنا وبكل جوارحنا نصيح ونبكي!.
الى متى يا ياسر سنظل نبكي!؟, رحمة الله واسعة!
تشمله في جناته,, وتشملنا في مصيبتنا,.
اجل فهذه هي مصيبة كل من عرف اباك,, عبدالوهاب! لا إله إلا الله!
|