| الثقافية
هذا الشعر الجديد، الذي يُكتب ْ الآن ْ ويملأ مساحات النشر، ويصر ْ يوميا ْ على أخذ حقه كاملا، من الحضور؛ ما موقفه الفنّي من محاولة بعض الانواع الأدبية منافسته على الصدارة في قائمة اهتمامات الذائقة العربية ومتطلباتها الجديدة، وفي قائمة استجابات الذائقة الانسانية في كل مكان في العالم، ومن أين يستمد كل هذه القوة وهذا الصبر، وهو يراهن ْ كل لحظة,, وفيها ْ على نفسه، وينتصر؟
هذا الشعر الجديد، لا يكرّر ولا يستعيد ولا يُعيد انتاج ابداع سابق، ولا يشبه ما كُتب من قبل، فيما هو يدرك ويعي أنه لا ينبغي ان يُشبهه شعر جديد سوف يكتب من بعد.
في الأربعينيات من القرن العشرين، بدأ الشعراء يتخلّون عن قواعد الخليل في الاوزان والقوافي، ونجحوا في فك القيد الأول وفي وقت مبكر، أعني شعراء التفعلية.
في الخمسينيات من القرن العشرين بدأ الشعراء يتخلّون عن الايقاع الخارجي ونجحوا في وقت متأخر، وبخاصة، عند من اختفى وخفت الايقاع وغابت التقفية عن شعرهم تماما.
ومع ان بدايات قصيدة النثر كانت سابقة لبدايات شعر التفعيلة، وليس كما يتوهم البعض,, من أنها وليدة عنها او تطوّر لها، الا ان بداياتها كانت مشابهة لبدايات التفعيلة، واكثر ما يظهر وجه الشبه هذا في حرص من بدأوا يكتبونها على التقفية وهندسة التناظر والترجيع والالتزام بالقواعد التي استنتجتها سوزان برنار .
شعراء التفعيلة، وشعراء قصيدة النثر، الرواد والتابعون، والى ان جاء جيل السبعينيات، حققوا انجازا شعرياً هائلا، بمختلف مدارسهم الفنّية وتوجهاتهم الايدلوجية وانتماءاتهم.
النقلة الكبرى تحققت؛ وخرج على قواعدها وأنماطها ومدارسها شعراء السبعينيات، ومن ثم جاء الجيل ْ الآن ْ، المتطورون من شعراء الثمانينيات والتسعينيات، وقد استوعبوا التجارب السابقة كاملة، بالاضافة الى استيعابهم للتراث,, بشكل ومضمون اكثر وعياً من استيعاب السابقين له، وبصحوة فنية وذائقة وحساسية جديدة وغير مشروطة، واصبحوا يمثّلون ْ الآن ْ الشعر الجديد، مجتمعين ومتفرقين.
الشعر الجديد، شعر عالمي انساني، ومحلي في الوقت نفسه، محليٌّ ليس فئويا ولا مدينيا، وانما شعبيٌّ، شعبيٌّ يكشف عما هو مشترك بين افراد المجتمع هنا أنا اتكلم عن الشعر الفصيح وليس عن أزجال الفولكلور العاميّة ، وعالمي انساني حين ينجح الشاعر في تحويل ما هو ذاتي الى مشترك انساني ذي افق مفتوح، مدركا ان معاناة الانسان واحدة، في كل زمان ومكان، وان الانجازات الفنّية لن يبقى منها الا ما يجد كل انسان فيه نفسه، حيث ينهض الشاعر الجديد بأناه متجاوزا همومها وهواجسها واحلامها الخاصة الى الأنا المشتركة وفضاءها الانساني الرحب، منطلقا من التخصيص الى التعميم ناقلا تحولاته الخاصة بكل ما تحمل من جدلية حضور وغياب وتباين وتناقض ورؤى ونقد الى التحولات الأكثر عموما واستعيابا للتجربة الانسانية بشمولها، مانحا تجاربه الديموقة وهو يكتب في الواقع لا عنه، وهو يرقى باليومي والمألوف الى مصاف الشعرية وبالتجربة الخاصة الى التعميم وبجوهر اللحظات الأكثر خصوصية.
الشعر الجديد: شعر مقطّر، بلا زوائد ولا زينة ولا اكليشيهات، وحداثته جديدة، ومختلفة عن الحداثات السابقة؛ يبحث عن الشعرية في العادي والهامشي والمنسيّ والمسكوت عنه، وفي العلاقات الانسانية البسيطة، عبر اساليب تعبير اكثر قرباً من الانسان في حركة وجدلية حياته اليومية وذاته وواقعه ووجوده وعلاقاته، فاتحا آفاقا جديدة تؤسس لها ذائقة جديدة وحسّ جديد وادراك متطور وواع للتبدلات الدائمة لما يحيط به، ورؤاه ومواقفه من هذه الأشياء كلها.
الشعر الجديد غير مشروط بحداثات او مفاهيم سابقة، ولا يهيم في مستقبل بعيد غامض، ولا يلتفت الى الوراء، ويمارس اختراقات متوالية، من حيث انه اكثر الانواع الادبية تفلّتا من الشروط والقيود والقواعد والأنماط والمناهج والنظريات والمقاييس والعادات التي يرهن النقد نفسه لها غالبا، ومن حيث وقوع بقية الانواع الأدبية ْ وفي هذه النقطة بالذات ْ بين النقد والشعر، مراوحة بين اقصى درجات الحرية الابداعية وبين اقصى درجات الالتزام المنهجي، عدا عن ان الابداع والانجاز الحقيقي في النقد مشروط بالإبداع والانجاز المتحقق في الانواع الأدبية التي يُجادلها، ومن حيث ان النقد منجز يمكن الاستغناء عنه وتعديله,, عدا عن ارتباطه بزمانه وبيئته الى حد كبير خلافا للابداع الأدبي والفني والذي لا يمكن تجاوزه الا بالاضافة اليه.
الشعر الجديد، استطاع تسجيل حضور حقيقي في الحياة والواقع الثقافي العربي، بعيدا عن شعارات الرواد وأوهامهم، وعن الغياب في طلاسم المستقبل الغامض، من خلال مجادلته لنفسه ولواقعه، ومن حيث توظيفه لتقنيات الفنون والانواع الأدبية الاخرى، ولأجمل عناصر الثقافات الثلاث الشفوية والكتابية والبصرية بعيدا عن الحشو المتوافر في الأنواع الاخرى، وقريبا من واقع الانسان المعاش، اليوم.
|
|
|
|
|