| الثقافية
* في النقوش المصرية القديمة قرىء سطور مدهشة من الابداع الكتابي، والتي تحمل عدداً من القيم الاخلاقية التعاملية في علاقة الانسان بمجتمعه وبيئته وبعقيدته ومفهومه للكون والحياة ومن هذه العبارات:
(أنا لا أقطع الحليب عن الربيع ولا الرضيع
أنا لا أظلم أحداً,.
أنا لا اقسو على الحيران,.
أنا لا اعبث بمنابع النيل).
يمكننا ان نتناول مثل هذا القول ْ النص ْ والذي لم يرد ْ هنا ْ كاملا، من عدة مداخل او ابواب او نوافذ، ولعل اقلها وافهمها في شأن النص المتطور الذي تقدمنا بآلاف السنين، والذي لايزال بعض المتحجرين أشد حجرة من صخور (الاهرام) ظانين بأن اللغة كوسيلة تعبيرية لا تتطور بتطور الانسان، انما تقف عند حدود أذواقهم الثابتة الصادرة من منابع جافة لا تسقي ضرعا ولا زرعا وانما تصلح فقط لكي تكون أحاجيج لا حجة فيها لتعطيل رؤى الانسان وتعبيره وفنه وملكته وتصوره وسعادته بسعادة الآخرين,.
واذا كان (ابو تمام) قد أجاب على سائله الذي وقف على بابه طالباً أياه قطرة من (ماء الهواء) في إناء,, لن اعطيك حتى تأتيني بريشة من جناح الرحمة,,!
وكان جوابا قد مضى على النص الفرعوني المذكور آلاف يمكن احصاؤها! دون تستر او حرج، فإن الصاعقة الفكرية القادمة من اغوار التاريخ قد حان لها ان تبعث متجهة كالسهم القديم الى عقلنا الحجري اليوم:
(انا لا اقطع الحليب عن الربيع)!!
ولا ادري كيف سيرى بعض شيوخ النقد الافذاذ الذي رأى في قول الشاعر الحديث جنونا حين جعل من الشمس (نورا يتفسح في الشوارع)!!
* * *
إننا لا نعتقد ْ والتاريخ شاهدنا ومشهودنا ْ بأن الانسان في الماضي البعيد جداً، والبعيد القريب قد كان محجورا على تعبيره، أو خياله وتصوره، او ان ثمة حراسا من الجن والشياطين يقفون عند تفتقات ذهنيته ْ الفنية، ولا نعتقد ان هناك وصايا وشروطا وانماطا تحد من امكانية الانسان في التفنن والتصور والابداع واذا كان قد جاء شيء من هذا القبيل فقد جاء من اجل رسم نوع من الدساتير الموضوعة لصالح الكفالة الاجتماعية العامة، وهي كفالات تضمن التشريع في اطار مصلي كلي سلمي انساني وضرورتها تقع في جانبيها الردعي والتحذيري.
واذا قلنا بالعين التاريخية ذاتها، ان (حمورابي) الناشىء في الحضارات القديمة ْ بين النهرين ْ قد اوجد تشريعات نعتبرها في بعض موادها حضارية حتى يومنا الليزري هذا,, قد كانت مأخوذة حسب إملاءاتها وفرضيات حكمة واقعها,, الا انها لم ولن تكون معروفة لولا الكتابة (المسمارية) التي ابتكرها الانسان (السومري) وهي نوع رائد وبالغ الاختراع وفضله يعود الى محاولة الانسان القديم في التعبير الذي تحول الى شكل اجتماعي غاية في الفائدة اي انه احد انواع الوسائل التعبيرية,, الفنية بعد الرسوم الذي كان على أثره تسجيل الشفاهية البشرية وتسجيل معارفها وتواريخها وحوادث وقيم حضاراتها.
وربما لولاها ْ وبالعين التاريخية ذاتها ْ لما أمكن مثل ناقدنا المناقض الذي لن يقف التاريخ عند اقواله البديعة الصارمة تلك,, أقول لولاها لما أمكنه بشكل او بآخر من التعبير عن رأيه المناقض للتاريخ الذي بصق على آلاف سنينه وبشريته وصراعاته وفنونه، لمجرد ان اجتهاداته اللغوية ورؤيته الفكرية الحجرية لا تسمح له بأن يتصور ان الشمس تتفسح في الشوارع!
* * *
إننا لا نستطيع ان نتصور بمقياس جدلي او حتى بهيمي ان التاريخ في احد ممراته الصعبة، قد ينحني ليمنح آذانه لمثل هذه المعارضات المسكينة الواقفة ببلادة وتعنت امام مسيرة الانسان وفكره ورؤاه وابداعاته من اجل خير البشرية، ولو ان قائلا قال:
أحجبوا الشمس عن التفسح في الشوارع,, لقلنا: نحن لا نستطيع,, فاحجبها انت ان اسطعت، لأنك لا تريدها ان تشرق على الناس، ولو انه بيدك لحجبتها,, فافعل!
|
|
|
|
|