أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 21st March,2000العدد:10036الطبعةالاولـيالثلاثاء 15 ,ذو الحجة 1420

مقـالات

من عبقريات الرياض
عبقرية المكان إلى عبقرية الإنسان
عبدالله نور
ومن عبقرياتهم أن خبراء الكُحل وتجار الكُحل في بلاد الهند كانوا يفدون إلى الرياض لشراء الكُحل الحجري اليمامي وتسويقه في الهند وغيرها، لأنه متميز بخصائص ليست في كل الأكحال، ومثلما يُضرب المثل بالسَّيف القاطع ويُنسَب إلى الهند فيقولون: السيف الهندي، والهندواني، فقد كان المثل يضرب أيضاً بالسيف الحنفي، أو السيف الحجري، وكان الرسول المصطفى محمد بن عبدالله يقتني سيفاً حنفياً، ناهيك عما لديهم من الرماح والسهام الممتازة، أما ملح الطعام الذي يجلبونه من بلدة القصب فأمره عجيب في جودته واكتسابه لخواص نادرة ليست في غيره، ومن أجل وفرة ما عندهم من أشجار العُشر والأرطى، ومن أجل جودة العُشر والأرضى الفائقة التي لا يضارعها غيرها في البلدان فقد أكسبهم ذاك مهارة في صناعة الجلديَّات ودباغتها وحسن اعدادها لما يصلح لها من صناعات أخرى لا حصر لها.أمَّا صناعة الطِّين وإعداده من أجل البناء فقد شهد الرسول المصطفى عليه السلام للصحابي المعروف طَلق الحنفي حين رآه يشارك مع الناس في بناء المسجد النبوي، شهد له بالبراعة في معالجة الطين حيث رأى ما أعجبه من أسلوبه في ضربه بالمسحاة، وخلطه الماء بالتراب، وأسلوبه في معالجته حين يقوم بتحويله إلى طين وليس كل تراب يُخلط بالماء يصلح أن يكون طيناً، وليس كل طين يصلح للبناء، ولم يكتم الرسول الأكرم اعجابه بالصحابي الحنفي فقال قولته المشهورة: إنَّ هذا الحنفي لصاحب طين؟!ولابد للمرء الذي لم يتوفر على قراءة تاريخ الرياض القديم أن يدهش ويسارع إلى التكذيب إذا هو لم يقرأ ما يقوله المؤرخون عن التنوع السكاني في الرياض قبل البعثة المحمدية، فالرياض لم تكن أرضاً طاردة أو نافرة أو ذات عصبية قاهرة، بل كانت أرضاً رحبة تفتح ذراعيها لتحتضن ذوي الخبرات والمهارات والصناعات من كل أقطار الدنيا، ففيها العربي والزنجي والسندي والبربري والرومي، وفيها فوق ذلك التمازج والتجاوز والتسامح وفتح الأودية لكل المواهب والقدرات دون شح أو تفريق أو عصبية مرذولة، فهذا رجل يقال له: عاذوق مضرب المثل في الكرم والندى، وكان مولى، وهذا توبة العنبري روى عنه الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وأَنَس، وتولى أرفع المناصب في القضاء وكان مولى، وخالد بن الهيثم، ويحيى بن أبي كثير، ونُصَيب الشاعر المبدع، والحَيقُطان، أفصح أهل زمانه وكلهم موال لم يقبعوا في دائرة العصبية التي نراها في حضارة بلاد الروم، أو بلاد فارس.لا غرو بعدئذ أن ينبع فوق هذه الأرض الأطباء المهرة الذين هم مقصد كل المرضى في أنحاء الجزيرة، ولمَّا كانت الطبابة إذ ذاك مقرونة بالتنجيم والعرافين فقد كان من السهل أن ترى مكانتهم في هذه الطبابة ذائعة على ألسنة الشعراء العرب، وليس أحد منا لم يقرأ للشاعر عروة بن حزام صاحب عفراء قصيدته المشهورة، ومطلعها المشهود حيث يقول: جعلتُ لعرَّاف اليمامة حُكمه وعرَّاف حَجر إن هما شفيانيوهناك مهنة أخرى أو هي بالأحرى صناعة مشهورة ومرغوبة وضرورية ولولاها لكانت سميائية الفرسان البدو مقلوبة أو معكوسة، أو هي مقلقة أو مربكة أيضاً، وأعني مهنة الحِلاقة، أي صناعة الحلاقة، وما أصعبها من مهنة وما أندرها من مهنة، وكم هي ضرورة للعربي البدوي يحتاج فيها إلى الحلاق مثل حاجته إلى الطعام والشراب، وربما أكثر، وماذاك إلا لكون البدو، ولا سيما الفرسان منهم يتباهون باطالة شعر الرأس، ثم بتجديله أو تضفيره، وتركه ينحدر فوق الاكتاف مجدولاً أو مضفوراً، ويتباهون بدهنه وتطييبه، وعقده أو فتله، ومن ثم نشره مثل جُمّة شيطانية حينما يجدون أنفسهم على متون الخيل في غارة أو معركة حربية، والحلاق في بلدهم محظوظ بطبيعة الحال لأنه يمتلك الأَشنان والحَرَض الذي لا يوجد له نظير، وهو في غسل الشعر لا نظير له البتة.إن جميع تلك المعطيات والخصائص العبقرية تُصبح ليست ذات جدوى إن لم تتشكل وتصطبغ بروح الإنسان وعقل الإنسان ووجدان الإنسان الذي هو جزء منها ولن تصبح جزءاً منها ما لم تتحقق من النتائج التي هي محصلة الأرض والإنسان معاً، لقد أبدعت الأرض، فهل أبدع الإنسان؟حين ظهر الإسلام وسطع نوره على بقاع الجزيرة العربية كان أهل اليمامة سبَّاقين إلى الدخول فيه وقد أبدعوا، وحين ارتدت معظم القبائل العربية لم يرتد كل أهل اليمامة، ولم يكن ارتداد مسيلمة الكذاب إلا لكونه طامحاً في الزعامة، وحين خرج مسيلمة الكذاب بدعوة النبوة لم يوافقه عليها أهل اليمامة لما هو مشهور عند العوام، بل حاربوه بقيادة الصحابي الجليل ثمامة بن أُثال في معركتين ضاريتين وأوشكوا على الظفر به لولا تعجل شرحبيل وعكرمة، وكان ثمامة وهو من كبار الأمراء في حنيفة قد سبق الى الإسلام والرسول الكريم مازال في مكة يدعو الناس سرَّاً، وحين حوصرت بنو هاشم في الشعب المعروف بشعب عامر قام ثمامة بقطع تصدير الحنطة الى قريش حتى فك الحصار، وهل هناك أبدع من هذه بل إنهم أسبق من الكثيرين من غيرهم في دخول الإسلام وهو ما يزال في بكارته، فمنهم من ألقى الصنم في البئر، ومنهم من كسره، ومنهم من شارك في بناء المسجد النبوي مثل طَلق، ولعلهم الوحيدون دون غيرهم من وصل بهم الأمر إلى تعيين أول وزير للمياه بتعبير هذا الزمن، إذ كان هناك أمير مخصص للمياه، له حرس وهيئة وسلطان، وأمير مخصص للنَّجدة في العثور على الإبل الضالة، وهم أوفر من غيرهم على غير قياس في كثرة المنابر، والنوادي، والاختصاصات الأخرى التي ينفردون بها وليس في هذا مبالغة.كيف حدث هذا انه بالطبع نتيجة لعبقريتهم المطابقة لعبقرية أرضهم وكان أمراء حنيفة هم الوحيدون الذين تصاهرهم قبيلة قريش وقد تزوج منهم ستة أمراء من أميرات قريشيات، وقصة المبادرة في دخول الإسلام لم تأت إلا من عقل نقدي تحليلي استشرافي عبقري، وقد أولاهم الرسول الكريم عناية فائقة بأن بعث إليهم سليط الحنفي فأسلموا قبل غيرهم، وبعث إليهم الدعاة والمعلمين والقضاة، وكانت عندهم مجالس على فقه وأدب ورواية وعلم كثير؟!ورواية تَخَرَّج منها خلق كثير؟!

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved