| الثقافية
مر الوقت بطيئا، ومثقلا، بكم هائل من الاحاسيس المتضاربة والتوترات المتلاحقة ولحظات من الترقب والحذر، وبعض من اصداء الذكريات رست ملامحها بدقة في مخيلتها، لم تشعر بوقع خطوات بناتها مندفعات نحوها وهن يحاولن اخفاء خيبة امل، امل وقف شامخا في اعماقها يهدئ من روعها ويطمئنها بعودته سالما، شعرت بكيانها يقع من علو شاهق عندما عانقها حفيدها بيديه الصغيرتين قائلا:
ْ أحبك كثيرا، وأحب خالي سلطان,, تابع في دهشة واضحة
ْ جدتي,, أين هو؟,,
وشهقت والدته وتعالت شهقات أخرى يخالطها نحيب لم تعد تعي ما يدور حولها، وما يدور داخل اعماقها، وبشعور اختلطت فيه الارادة واللاإرادة احتوت حفيدها بين ذراعيها وأخذت تقبل وجهه وتقبل فيه وجه سلطان,, اصبح الخوف راسخا في خلاياها، ينهر فيها صلابتها,, يمنعها بقوة وقسوة من معانقة الامل,, الامل في عودة سلطان من رحلته,
كانت رحلة، مجرد رحلة تعودها ومجموعة من رفاقه، شدته رحلات البر ومطاردة الارانب البرية بحثا عن الانشغال الوقتي والهروب من الملل والفراغ والانصهار في وهج المغامرة,
تجمعت النساء حولها وضباب كثيف من الحزن غلف زوايا المسكن,, أحاط الجمع بهالة من الدهشة، الحقيقة المرة تدحرجت، وأصابت قلبها بهلع شديد ونيران الشوق استعرت قبل ان تتيقن حقيقة انه الفراق الاخير، وجاء صوته الحنون من عمق الذاكرة,
ْ لن أتأخر,, كما ليلة البارحة,, لا تقلقي,, سأكون هنا قبل منتصف الليل,
وتخيلت وجهه الحبيب يطل، واختلطت الذاكرة بأشياء مريرة، وألف وجه معزٍّ، ضاقت بها حدقة عينيها كم من يوم مر وهي لا تستطيع ان تعي، والوعي في جسدها خدرته ابر الطبيب، ولكن ذهنها يأبى التخدير، يأبى كل المسكنات، الالم اشتد حتى وصل عنان السماء، حفر باطن الارض والجسد النحيل يرتعد خوفاأغمضت عينيها لتحتفظ بأكبر عدد من صور الذكريات التي تحمل كل تحركاته وكل كلماته وكل اشيائه، مازال صوته يداعب مسامعها:
ْ أحبك يا أمي وأعدك بألا أتأخر,
وبرعشة فراق مسعورة تفتح عينيها من جديد، تنادي بناتها، تدعوهن للاقتراب، يقتربن تحتضنهن تطفئ بعضا من اشواقها إليه,, تمتزج دموعها، والتنهدات تمخر الافئدة، وتنحسر الامنيات والفراق المر يلهب مشاعرهن,, صرخت بأعلى صوتها صرخة هستيرية هزت سكون الحزن وهدوءها الهش:
ْ لماذا ,, لماذا تأخرت يا سلطان,, سلطان يا قرة عيني وروحي التي احيا بها,, سلطان,, سلطان,,تعالت اصوات نحيبهن مع صوتها المخنوق بعبرات البكاء:
ْ الله يرحمك يا,, يا أخانا وحبيبنا,
كلمات ممزوجة بالاسى، ترددت على شفاههن,,
ْ إنا لله وإنا إليه راجعون,
الغصة أكبر وأكبر من أن يستوعبها العقل )اللهم لا اعتراض على مشيئتك(
قالتها أخت سلطان الكبرى وهي تحتضن والدتها وبصوت متحشرج:
ْ أمي أنت مؤمنة واتكالك على الله,, الموت مصير كل البشر ويكفينا ايمانا قول الله تعالى: )يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي(,, خبأت رأسها بين يديها ولسانها يتمتم بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم رفعت يديها عن وجهها الذي خبأته في محاولة يائسة للتظاهر بالصمود وهبت قائمة من على الارض، كيف خطت خطواتها كيف وصلت إلى غرفة الحبيب الغائب، لم تشعر بكل ذلك حتى الذاكرة الوقتية منهارة، رمقت اشياءه وعيناها تفيضان بدمع غزير,, اقتربت من المشجب,, أمسكت بثوبه وغترته آخر ما بدل من ملابسه وضمتهما الى صدرها وهي تأخذ نفساً عميقا، تشم رائحته الحبيبة وبعض من حسه بقي عالقا بغرفته، روحه المرحة، مداعبته، شقاوته المحببة، قفشاته الصبيانية، ملامحه الضاحكة ومواعيد نومه وصحوه,, كل هذه الاشياء كيف ستكون بدونه؟ أحلامه من سيكملها؟
ارتمت عاجزة عن تخيل الحياة بدونه عل سريره,, أجهشت بالبكاء وهي تردد:
لن يحتضنك سريرك,, سيكون فارغا,, كما الحياة ستظل فارغة,, لن تأتي تقبل جبيني في الصباح,, او في المساء كعادتك دوما,, وكما اعتدت من فرح الدنيا، الصباح والمساء وكل الاوقات الآتية لن تضمك بين دفتيها، كنت تملأ حياتي بالبهجة والسعادة والفرح والنور،، لي أحلامي الخاصة بك، أريد تحقيقها، زوجة وأولاداً أرى فيهم طفولتك، أرى فيهم امتداد اسمك واسم والدك الذي شل الحزن تفكيره وصلبه الانتظار عند عتبة المجلس، ابى قلبه ان يصدق انك انفصلت عنه، ابت احاسيسه التأقلم مع الفراق، فراقك انت وانه لن يراك أبداً تقف بجانبه كعهده دائما بك,
أنت أمله الوحيد، وخوفه الشديد دائما عليك، ولانك الامتداد الوحيد له,, رفاقك كل يوم يلتفون حوله يعزون والدك فيك ،يعزون انفسهم، وأخذت نفسا عميقا يحمل ألما مضاعفا وشوقا لرؤيته جارفا يخطف بين الحين والآخر هدوءها وبعضا من سكينتها,, خطت نحو الباب وأقفلته على اشيائه، المساحة التي تركها سلطان في حياة والديه شاسعة نشعر بها تمتد مع أحزاننا وفراقه خنجر مزق افئدتنا، آلامه ستمتد كلما لاح وجه سلطان في ازمنة الرحيل والنسيان,
فاطمة الكواري |
|
|
|
|