أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 19th March,2000العدد:10034الطبعةالاولـيالأحد 13 ,ذو الحجة 1420

مقـالات

آفاق وأنفاق
ويسألونني عن سر الشروحات اللغوية!
د,محمد العيد الخطراوي
ويسألونني عن سر هذه الشروحات اللغوية بين يدي مقالاتي، او في مقالاتي، هل هي ضرب من استعراض العضلات اللغوية؟ أو تنويه خفي بروابطك المعجمية؟ او هو بعض من الاهتمام بالاشكال البائدة، والتجوال في المحطات القديمة، والمتاحف السلالية؟ او هو بقايا من مهنة العمر التي قضيت فيها اثنين وأربعين عاما، على طريقة قولهم: كل رجل وصناعته؟ وعلى طريقة ذلك المدرس الذي لم تفارقه مهنته بعد تقاعده، وذلك حين اراد ان يحسّن دخله بالاشتغال بائع تذاكر في حافلة جوّالة بإحدى الشركات، قال للركاب: من يرد ان ينزل المحطة الجاية فليرفع اصبعه! جملة شبيهة بتلك الجملة التي كان ينظم بها مناقشات طلابه! ألم تمل من التدريس والتعريس يا دكتور؟
قلت: كل ذلك لم يكن! اما استعراض العضلات، فأعوذ بالله ان أكون من الجاهلين، وما يفعل ذلك إلا جاهل، لان العالم يعرف ان بني عمه فيهم رماح، وان ما لديه من علم، لا يساوي من العلوم التي أودعها الله في قلوب الناس الا ما تساويه الدقيقة من الاسبوع، والقطرة من الينبوع، والقُلامة من الإصبوع!
وليس استعراض العضلات على اختلاف ميادينه ومجالاته الا ضربا من البطر والتبختر الذي حرمه الله، ولم يرخص فيه الا في مواطن معدودات ليس منها ما نحن فيه, واما إرادة التنويه بالروابط المعجمية، فربما كان شيء منه في بالي، وسأتحدث عن ذلك لاحقا, واما ارتباطي بالقديم فإنني أفاخر بذلك واتخايل به، وأغلو فيه، لا أفعل ذلك عن جهل او رجعية او جمود، ولكن عن وعي وتأصيل وتطوير وتحديث، وأحمد الله ان كنت من هذا القبيل, وأما عن مهنة التدريس، فلا أنكر ان يكون لها تأثير في اسلوبي، فقد افدت منها اشياء كثيرة وصفات عديدة، منها الصبر والمجالدة، والاستقصاء والبسط والتيسير، وربما عمق التناول ايضا، ومحاولة الاحاطة بجوانب الموضوع المطروح,
ولو اتيحت لي بداية جديدة لحياتي لاخترت ان اكون مدرسا! انني احب التدريس والتعريس!,
إن الذي يدفعني الى التقدمة بمثل هذه الشروحات اللغوية عدة امور لعل من أهمها:
1 ْ إننا اصبحنا نعاني عن سيادة العامية، فحتى الذي اعتاد الكتابة بالفصحى يعمد احيانا الى الكتابة بالعامية، يبدأ بذلك تحذلقاً، ثم لا يؤوب الى حرم الفصحى براءة وولاء,
2 ْ إننا نعاني من اساليب تدّعي الفصاحة، وما هي من الفصحى في شيء، تلك هي لغة كثير من الصحافيين، مما يصح معه ان نقسم لغة الكتابة اليوم الى ثلاثة انواع، هي: ·العامية، والفصحى، والصحافية، او ما سماه الاولون بلغة الجرائد، وألفوا في معالجته كتبا عديدة، ولكنه داء عضال آخر على الفصحى من العامية، ورحم الله حافظ إبراهيم حين قال:


أرى كل يوم بالجرائد مزلقا
إلى القبر يدنيني بغير اناة
أيتركني قومي,, عفا الله عنهم
إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الأفرنج فيها كما سرى
لعاب الافاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الالوان، مختلفات

إن النص الادبي أصبحت تغزوه الغربة في عقر داره، وتتسبب في موته ساعة يولد، ذلك انه يعاني من الجهل اللغوي لدى منشئه، والجهل اللغوي والقدرة على فك رموزه لدى متلقيه, وأرجو ألا نصطدم بأحد من اباطرة هذا النوع من الكاتبين، فإن لدي نماذج من الاخطاء، ووقائع من سوء الاستعمال اللغوي يشيب لها الولدان، وتقشعر لها الابدان ·فخل الطبق مستور، وبلاش صدام ,
وتوضيحاً لهذا الادعاء اقول: إذا صح ان الاديب هو صانع لغته تفريغا وشحنا، وتوليدا وتفجيرا، وإحداثا لروابط جديدة، او اكتشافا لحقول دلالية جديدة، ومتابعة او ايهاما في رحلة الألفاظ الدائبة من الحقيقة الى المجاز، والعكس، الى غير ذلك من التحركات داخل النظام اللغوي، فكيف يكون هذا؟ وبم يتحقق؟
إن ذلك بكل تأكيد لن يتحقق للاديب الا اذا كانت ثقافته المعجمية متكاملة، اي انه يمتلك معرفة لغوية دقيقة، ويدرك الفروق الظاهرة والخفية بين المعاني الحقيقية للألفاظ، ويؤمن بأن ما يسميه بعضهم بالترادف لا وجود له بالمعنى الكامل بين دلالات الألفاظ، ولابد من وجود فروق دقيقة، من امتلك ناصيتها استطاع ان يعبر بدقة عن مراده، ومن جهلها أخفق وعاش حياته في ادعاءات لا تفيده ولا تغنيه، لابد من وجود هذا الحس اللغوي الذي يمكِّن الاديب من حسن اختيار كلماته، ففرق كبير بين قسَمَ، وقصَمَ,, - مثلا - بينما تجتمعان في فصل اجزاء الشيء عن بعضها، لكن القسْم والفصل في الاولى بلطف، بينما هو في الثانية بعنف، ولذلك لو قلت: تلك مصيبة قاسمة للظهر لبان لك الفرق بينها وبين ان تقول: هي قاصمة للظهر, وهناك فرق بين الليث والهزبر، وبين السيف، والبتار، وهكذا, وكذلك بين الكم بالكسر والكم بالضم، والكم بالفتح,
إننا حين نقرأ لبعضهم نتذكر قول بعض الساخرين: ·كل أبيض عند العرب صابون ونتذكر قول الشاعر:


لاتحسب المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا

ولانتشار هذا الجهل المخجل بين الكاتبين اليوم اليها دخل ميدان الكتابة كل الافَّاقين والناعقين،ولم تستطع العملة الجيدة أن تطرد العملة الرديئة، لأن عناصر الجودة التي يمكن الاحتكام اليها، غائبة وغير معروفة ولا مرعية، فمن يطفو على السطح؟ طبعا الخفيف والجفاء, ومن يقنعنا أكثر, بالطبع يقنعنا صاحب الصوت المجلجل، وذو ·الشومة الاضخم واللسان الأفوه, ولا حول ولا قوة الا بالله,
إن الحس اللغوي الذي نشير اليه لن يتحقق الا بالمعرفة والممارسة، يقع به الاديب على ألفاظه التي تتناسب مع مقاصده، وتهيىء له مجال الابتكار في إحداث علاقات جديدة بين الكلمات في دلالتها، وشحنها بمعان لم تكن لها في المعجم، وانما يودعها هو فيها، ويسكنها بها، لاخروجا وتمردا، بل ورودا وتفردا,
نحن لا ندعو الى أن نعود بالكتابة الى سابق كيفياتها وأدواتها واشكالها والوانها واجناسها كما كانت في العهود القديمة، أو أن نكتب بأسلوب أبي تراب الظاهري! ولكننا ندعو الى ألا نقطع صلتنا بتراثنا وماضينا وإن من اوليات العمل على وصلنا بتراثنا ان نمتلك معرفة لغوية تفك لنا ألغازه، وتفتح لنا مجاهيله، فقد أعرض كثير من الناس عن ذلك ونأوا، فانطلقوا عراة من تاريخهم، ولن يستطيعوا ان يواروا سوءاتهم بالجديد,
إذن نحن في جميع الأحوال في حاجة إلى هذه الشروحات اللغوية، سواء أنحزنا الى القديم لنفهمه ونتعامل معه، او ركبنا موجة الجديد، وتعاطينا أساليبه، وخضنا فيه مع الخائضين، فاعذروني إن أثقلت عليكم ايها الإخوة ببعض هذه الشروحات، واتيحوا لي فرصة ان اتعلم بين يدكم ما خوي منه الاكثرون، أو فلنشترك في معرفة جماعية، تخدم الجميع,

أعلـىالصفحةرجوع














[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved