من الشواغل التي انصرف إليها أبناؤنا من يافعين ومراهقين السياحة في الشوارع والسعي في المراكز التجارية,, لتزجية الوقت وملء الفراغ, ولست هنا بصدد إلقاء اللوم على هذه الفئة من مجتمعنا أو صب الاتهامات فوقهم، لأنهم قطعة عزيزة من كل واحد فينا,, وهم أملنا في الغد وعتادنا للمستقبل, إنهم حصادنا وثروتنا,, فماذا صنعنا من أجلهم,, وما الذي قدمناه لهم,, قبل أن نحاسبهم أونعاتبهم؟.لعلنا نحصر نقاشنا هنا في شئون الشباب,, أي البنين، ليس استهانة بالجنس الآخر,, البنات، ولا تجاهلاً لافتقارهن إلى الشواغل الجادة, فربما تكون معاناتهن أشد وطأة مما يكابده أشقاؤهن,, أو انهن أكثر احتياجاً إلى لفتة اهتمام بوضعهن في المجتمع, لكن المشكلة واحدة,, والتشخيص هو نفسه، مع الفوارق العضوية للجنسين,, بالطبع.حياة الأسرة لدينا هي نقطة البداية لهذه القضية، فالطفل ينشأ في بيت غالباً لايشعر بوجوده، ولا يخاطب مطالبه الفطرية، ولايحاوره بصيغة القدوة والأبوة والرحمة، ولايوفر له الأمان النفسي,, قبل التلويح له بمبادىء الثواب والعقاب، وتدريبه على تحمل المسئولية با لتدريج, الأب يدير الرحى في طلب الرزق نهاراً، وينصرف إلى الشلة أو البشكة في الاستراحة مساءً.والأم موظفة أو ربة بيت أو كلاهما,, تلتهم الأعمال اليومية جل وقتها، ثم تسعى لتعويض غياب الأب عن بيته وأسرته، وليس ثمة انسجام أو تناغم بين شخصيتي الأبوين.ويدخل الطفل إلى المدرسة,,فيبدأ طوراً جديداً من حياته,, أهم مافيه انه يفتقد هامش الطمأنينة التي قد تجود بها الأم,, وتتلقفه وجوه بشرية لم يعهدها من قبل,, يسمونها المعلمين, منهم من يحمل العصا فلايطلقها إلا إذا هوت بها يده علىظهر أحد التلاميذ، ومنهم من يزمجر بصوت لاتكاد تميز هل هو أجش أم أن قلة النوم وكثرة الملل ورتابة العمل أنهكته، ومنهم حديث الخبرة الذي تنقصه الكياسة وتطغى عليه رعونة الفتيان, بيئة غريبة,, ولغة مختلفة,, ونبرات حادة,, ومعاملة قاسية، تشعره بوحشة شديدة,, فيتوق إلى دلال الأم ودعة الحياة الأسرية ومؤانسة الاشقاء, ثم تأخذ شخصيته في اكتساب المؤثرات الطارئة، والتقاط الكلمات النابية، وممارسة التصرفات التي يمنعه عنها والداه، والتفاعل مع أقران من خلفيات متفاوتة, لايلمس توافقاً بين تراخي البيت وصرامة المدرسة,, ولايجد تكاملاً بين دور الأبوين ورسالة المعلم, لا الأسرة تسأل عما يدور في فصول المدرسة وردهاتها، ولا المدرسة تتصل بالأب أوتستدعيه لمراجعة سلوك التلميذ أو تفقد مستواه الدراسي.ويتقدم الفتى في مدارج الدراسة ، ويمطر بمحطات النمو المتوالية,, بكل براءتها وعفويتها,, وكل شقاوتها وعبثها,, فينظر إلى البيت والمدرسة كسياج يحد من حرية انطلاقه ويعوق تحركاته، ويبحث عن فضاءات يشعر فيها بوجوده وينفس عن طاقاته المكبوتة.إنه يترسم خطى جديدة,, ويرتدي جلداً أكثر خشونة، ويقترب من هالات الرجولة التي طالما داعبت خياله, فكأنه قد نشط من عقال، وكأن مساحة الدنيا بأكملها لاتتسع لضجيجه وعنفوانه.لقد افتقد الكنف الدافىء بين اسرته في بداية الطفولة، ولم تتوفر له البيئة التربوية المفترضة في المدرسة، ولم يكن محيطه الخارجي في المجتمع بأفضل حالاً، أين الاب القدوة,, والمعلم الذي يوجه,, والخل الوفي, والنماذج الجميلة والقوالب الجذابة؟ أين المنظومة التي تربطه بمجتمعه,, وتحفز همته,, وتنعش انتماءه إلى تاريخه ودينه ووطنه؟ في البيت دلال مفرط أو إهمال ولا مبالاة، وفي المدرسة إرهاب أو عدم اكتراث,, والهوة بين المحطتين سحيقة, ألا يمكن أن تستقيم أحوال البيتين,, المنزل والمدرسة,, فيستعين كل منهما بالآخر، وتتكامل رسالتهما؟.لنرجع إلى الماضي القريب هنيهة,, عندما كان المعلم أباً ومربياً، والأسرة تتعطش لتعليم أولادها,, وتخشى شبح الأمية,, وتتشاءم من عدم وجود من يقرأ ويكتب في البيت.حينئذ,, كان المجتمع يضحي بكل ماهو نفيس ليمتلك زمام العلم، ويبذل كل مافي وسعه ليتمكن أفراده من فك الحرف , لم يكن من المستهجن وقتها أن يصطحب الأب طفله إلى المعلم,, ويسلمه اياه كما هو حال الشاة عندما يتلقفها الجزار,, لذبحها وسلخها، ويعلن له بكل اعتزاز وشهامة لكم العظم ولنا اللحم أو أنت تكسر ونحن نجبر ,,, وكأن ذلك الطفل )الضحية( شيطان رجيم ساقته أقداره إلى مصيره المشئوم,, جهل الأب وجبروت المعلم.هذه الصور لم يعد من اللائق أن نشاهدها في عالم اليوم,, لكنها موجودة، وكثير منا لايستطعيون أن يعيشوا الحاضر بدون قوالب الامس,, كأن عقارب الزمن قد توقفت في عقولهم,, أوربما استمرت معاناتهم من ترسبات الأيام الخالية وعقدها النفسية، فهم يمارسونها مع جيل اليوم وينقلونها إليهم مباشرة، لتستمر السلسلة وتتكرر المأساة.هل نحن نمارس جلد الذات وتقريع النفس من خلال تفريغ شحنات الطاقة بمعاقبة اطفالنا؟ هل مازالت اسوار العقليات القديمة تحيط بنا من كل جانب,, فلانحن نرى بصيص النور ولانتنفس نسمات الهواء؟ حتى الإسلام,, الرسالة النقية والدين الصافي,, نكاد نلصق به مع الاسف الشديد كل اخفاقاتنا، وننسب إليه آثامنا, لم نحسن ترجمة تعاليم الإسلام،ولم نفلح في مسايرة معطيات العصر,, ثم نريد أن نبحث عن كبش فداء أو شماعة لحمل تلك الأوزار.إذن,, لابد من معالجة الخلل، وتناول جرعات الدواء على نطاق واسع,, وليس من المفيد أن ندور في حلقات مفرغة، ونشتت الجهود، ونضيع الوقت,, والخطوة الأولى للإصلاح هي العناية بالمؤسسات التربوية,, أي بانتقاء العناصر المناسبة لحمل لواء التربية, فلن ننجح في اعداد أجيال تتوافق مع ظروف الحياة ولاتنسلخ عن مجتمعنا وقيمه وافكاره,, إن لم نوفر الخامة الأساسية,, أي المعلم الكفء,, المعلم الذي لايشكو من الأمراض النفسية، ولا يعاني من داء التخلف الحضاري,, المعلم الذي لايختزن في عقله الباطن اضطهادات الطفولة، ولا تطارده الأوهام والخرافات,, المعلم الذي يخشى الله حق خشيته ويعي واجباته الدينية، ولكنه يستوعب حصاد التقنية ولايهاب طوفان العولمة.إن جهود وزارة المعارف وخططها لتطوير المؤسسات التربوية واضحة للعيان، ولا ينكرها إلا جاحد، والإنصاف يقتضي ألا نتعجل الوصول إلى قمة النجاح في سنة أو اثنتين، لأن قيادات الوزارة ومن استقطبتهم من الكفاءات المؤهلة لا يحملون عصا سحرية,, تحقق أحلامنا بلمسة واحدة, ولكن يمكن لنا أن نطلع على ماتم إنجازه وما هو مطروح للتنفيذ قريباً, وبادرة الاستعانة بالاسر الوطنية ستدعم مهمة الوزارة، ولكن أرجو أن نعيد لمجالس الآباء نشاطها وتفاعلها,, فهي من أفضل الضمانات لتعاون البيت مع المدرسة، لتكون مسئولية التربية أمانة مشتركة, ومن الضروري ان تتكرر اجتماعات مجالس الآباء ثلاث أو أربع مرات في السنة،وأن يحضرها مسئولو إدارات التعليم في المناطق، وأن تكون لها محاضر وتوصيات لإحاطة الوزارة بها وبما تتمخض عنه.وماذا بعد؟ هل المدارس هي قضيتنا الوحيدة وشغلنا الشاغل؟ إنها إن لم تكن كذلك فإنها بيت القصيد ومحور الحياة الاجتماعية كلها,, بل هي الرحم الثاني للأجيال، ومنها يخرج البنون والبنات إلى دروب الدنيا,, فهي الرافد والمصدر، ولاغنى عنها البتة,, فتبقى مهمة المؤسسات الأخرى هي توجيه الشباب وصقلهم وتثقيفهم وإشغالهم وقت فراغهم.
)يتبع(
|