قرأت قبل سنوات أول كتاب عن الفلسفة وقد كان من أفضل الكتب التي قرأتها في حياتي, لم أقرأه لأنني قررت أن أكون فيلسوفاً ولكن لأن مؤلفي الكتاب غدرا بي وأوقعاني في حالة تحد مع قدراتي العقلية, فقد كتبا في المقدمة ان هذا الكتاب هو أسهل كتاب يمكن أن يؤلف عن الفلسفة، فإذا فهمته فهذا يعني أنك قادر على أن تكون فيلسوفاً أو مفكراً واذا لم تفهمه فالنصيحة أن تبحث عن أي شيء إلا الفلسفة, وكما نعرف فالفلسفة هي نشاط الأذكياء والحكماء وأي تهرب من قراءة الكتاب سيكون بمثابة اعتراف مني انني لا أنتسب لأهل الحكمة والذكاء، ولكن المصيبة الكبرى إذا قرأته ولم أفهمه, على كل حال اكتشفت ولله الحمد انني أقع في الوسط بين أهل الحكمة وأبناء عمومتهم, وأصبح من حقي إلى حد ما أن أمارس الفلسفة.
الفلسفة والتنظير، على فكرة، هي أسهل شيء يمكن أن يمارسه الكاتب، لأنها تنقله من مواجهة الواقع والحقائق التي تتطلب شجاعة إلى النصائح والكلمات العمومية التي لا تغني ولا تسمن من جوع, وقد سبق ان قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إذا أردت أن تتكلم عن الحرية فتكلم عن حرية محددة بعينها عند شعب محدد أما إذا تكلمت عن الحرية بشكلها المطلق فهذه خيانة, على كل حال هناك كتاب عرب كثيرون يمارسون الفلسفة على الناس بمعنييها .
في انتظار طويل في مطار أثينا تسنى لي أن أتحدث مع امرأة أمريكية لأكثر من ثلاث ساعات, كانت في غاية المجاملة واللطف، وبعد أن بدأت تسفهل وتتباسط دخلت في حالة من التململ والمواربات والمقاربات والكر والفر ثم قالت بصوت الأمريكان اللجوج الجش: هل يمكن أن أقول لك شيئاً شريطة الا تغضب؟! لا أعرف ما الذي يمكن أن يغضبني من امرأة تجاوزت الستين وأستاذة في واحدة من أرقى الجامعات الأمريكية فاعطيتها الأمان فقالت: درَّست عدداً كبيراً من العرب بينهم عدد كبير من السعوديين,, كانوا لطفاء وكرماء ولكننا مع التجربة قررنا ان نعاملهم معاملة خاصة تختلف عن معاملة الشباب الأمريكان والأوروبيين, ثم أردفت قائلة ان شخصية الشاب العربي غير ناضجة وأقرب للطفولة, ومن أبرز سمات عدم النضج ان المرء يستطيع أن يتبنى فكرتين متناقضتين دون أن يوجعه رأسه, وضربت لي أمثلة كثيرة عن علاقة الشباب العرب بالمرأة وبالمجتمع وكثير من مواقفهم السياسية من الصعب أن أعيد سردها على صفحات الجريدة, صدمت ولكني لم أغضب, فبقيت هذه العبارة في دماغي ضمن مقاييسي العامة التي استخدمها في بعض التحليلات، فوجدت أنك تستطيع أن تجد أمثلة لا حصر لها في حياتنا على ما قالته البروفيسورة الأمريكية, واحد يشتري طاولة سفرة باربعين ألف ريال واذا جاءه ضيوف قلط على الأرض وواحد يذبح ابنته لأي هفوة بينما تستطيع أن تراه بكل سهولة يتسكع في المدن الأجنبية يرتكب كل المعاصي وبامكانك ان ترى عشرات الأمثلة في حياتنا العامة, ولكن المشكلة لا تقف عند رجل الشارع العادي بل تتعداه لتتظاهر في عقلية المثقف بشكل أكبر وأوضح وأبرز مثال ما كان يجري في السبعينيات والثمانينيات حيث سادت في العالم العربي فكرتان متناقضتان: هما الحداثة والاشتراكية, فتجد كثيرا من المثقفين العرب حداثيين واشتراكيين في نفس الوقت دون احساس بأي وجع في الرأس, تجده يكتب شعراً غامضاً على طريقة الشاعر الانجليزي تي اس أليوت وفي الوقت نفسه يدعو بكل قوة للاشتراكية والعمال والمنهج الاجتماعي ومخاطبة الجماهير الخ, فهو حليف العمال وفي الوقت نفسه هو من أشد المعجبين بأدب الامبريالي الكاثوليكي تي اس اليوت , هكذا إذاً هو ثوري وامبريالي في نفس الوقت، فمن الواضح أن كثيرا من ادمغتنا مجزأة إلى أقسام مثل جهاز التخزين في الكمبيوتر إلا أن الكمبيوتر يتفوق عليها بأن نظام التشغيل يسيطر على كل أجزائه ويوحد بين المدخلات والمخرجات، ولكن في العقل العربي يبدو أن لكل جزء من العقل نظام تشغيل خاص به تم تركيبه بمعزل عن الجزء الآخر, مما يعني أنه يستطيع أن يتبنى أفكاراً متناقضة ويجري عليها العمليات اللازمة دون احساس بالتناقض, فمن ابداعات العرب المتفردة أن المثقف يستطيع ان يكون مناضلاً على جبهتين متواجهتين متقاتلتين, و(الحد - اشتراكيين) كما كنت أسميهم، ليسوا المثل الوحيد والأفضل للتناقض في التفكير العربي ولكن هؤلاء هم المثل الوحيد الذي سيسمح لي رئيس التحرير باستخدامه لتوضيح فكرتي.