شدو أهمية العلوم الإنسانية بين الوجود والعدم (2) د, فارس الغزي |
استعرضت في المقالة السابقة ما قدمته العلوم الانسانية (تاريخيا) من خدمات جليلة الى العالم الغربي، واشرت، كذلك، الى ايجابية مواقف هذا الغرب تجاه العلوم الانسانية كونها قد اضطلعت بدور المروض للطبيعة البشرية من خلال (أنسنتها وترويضها وتحفيزها وتحريضها لانسانهم على استخدام (العقل) مما اخرجه من عصور ظلامه الاستنباطية الى عصور تنويره الاستقرائية بل وقاده الى اعلان ثورته الصناعية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي, ذكرت كذلك ان العلوم الانسانية لم تكتف بمرافقة الانسان الاوروبي حتى نقطة (التتويج) الصناعية تلك، بل انها واصلت المسيرة الى يومنا هذا لتزيل شبهات وتفك طلاسم الكثير من الظواهر الانسانية التي استجدت بفعل الثورة الصناعية, في هذه المقالة سوف القي نظرة تاريخية اخرى على جدلية (اهمية) العلوم الانسانية للتقدم الانساني معرفيا وعلميا مقتصرا على الابعاد التاريخية لهذا الموضوع في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن.
هناك نظرية تعرف لدى متخصصي علم الاجتماع بنظرية الفجوة الثقافية Cultural Gap وهي نظرية صاغها العالم الامريكي او قبرن (W. Ogburn Social Change, 1922) وفحواها انه في حال تخلفت العناصر اللامادية (المعنوية/ من قيم وعادات وتقاليد,,) في ثقافة ما عن جوانبها المادية (ما ينتجه الانسان ويستهلكه)، فثمة هناك فجوة برز على السطح من جرائها الكثير من الافرازات السلبية التي تعيق تقدم المجتمع, ولنا في حوادث السيارات في مجتمعنا مثال جلي على تلك الفجوة المتمثلة في الهوة بين السيارة (كعنصر ثقافي مادي) وغياب الوعي الملائم لقيادتها حضاريا (كجانب ثقافي لامادي), وما ينسحب على السيارة ينسحب، كذلك، على (الكاشف) والذي يمكن القول ان السبب في اللجوء الى اقتنائه يكمن في قصور الوعي الانساني في التعامل مع الهاتف التكنولوجي؟! هنا تبرز الحاجة الماسة الى ما اطلقت عليه في المقالة السابقة مهمة (ترويض الانسانية وانسنة التكنولوجيا)، التي لا تستطيع العلوم الطبيعية التي قامت في الاساس باختراع تلك الوسائل القيام بها، مما جعل ويجعل من مسؤولية التعامل معها وحمايتها من الانسان وحماية الانسان منها حكرا على العلوم الانسانية.
ان ظاهرة تخلف القيم قياسا على تقدم المخترعات ظاهرة تسربت الى العالم العربي الموغل في التخلف آنذاك بشقيه الثقافيين المادي واللامادي من لدن القرن التاسع عشر الميلادي وتراكمت مع تراكم محاولات (نقل التقنية على علاتها) وحتى يومنا هذا , فمن المعلوم ان القرن التاسع عشر الميلادي شهد بداية موجة الابتعاث للدراسة في الغرب في بعض الدول العربية وهي موجة بدأت في مصر ابان حكم محمد علي باشا، والذي تشير بعض الدراسات التاريخية الى ان ولعه وشغفه بتحقيق (ثورة صناعية) بمصر قد اعمياه عن حقيقة تخلف مالديه من قيم وعادات وتقاليد لم تكن قادرة البتة على توطين واستيعاب التقنية الغربية بالشكل الذي يضمن الاستفادة منها والسيطرة على آثار ما قد ينجم عنها, اذاً فالتركيز على العلوم الطبيعية وكما كان جليا في موجات الطلبة المصريين التي توافدت على فرنسا لدراسة تخصصات تقنية اضر في النهاية بالمجتمع المصري نتيجة عدم الاستفادة اولا من العلوم الانسانية في تنقية شوائب التخلف الثقافية السائدة وقتذاك، وتسخير تلك العلوم (كممهد) للتعامل الايجابي مع المخترعات التكنولوجية من اجل احداث تغير او (تغيير) اجتماعي من شأنه الترجمة الحقة (للامنية التنموية) المتمثلة في البدء من حيث انتهى اليه الآخرون,, بصيغة اخرى: غاب عن محمد علي ان استخدام التقنية لتعديل قيم سائدة او احلال قيم جديدة ليس سوى اصلاح (فوقي/ نخبوي/ مؤقت/ محدود) يحمل من الآثار العكسية ما (يعكسه) الواقع العربي في عصرنا هذا, الغريب ان الكثير من الدراسات الباحثة في المجالات التنموية تشير الى ان الطالب الوحيد الذي ابتعث الى فرنسا في ذاك الوقت للتخصص في علم انساني كان (رفاعة الطهطاوي) وهو العالم الذي احدث من التأثيرات الفكرية/ السلوكية في المجتمع المصري ما احدث حتى عصرنا هذا,، بل لا يغيب عن الاذهان ما اضطلع به (طه حسين) من اصلاحات مجتمعية جوهرية بعد رجوعه الى مصر قادما من فرنسا (بعلم انساني!).
ما هي، اذن مسببات هذا الموقف السلبي تجاه العلوم الانسانية؟! اهي نشوة الرغبة في (التقدم التقني العاجل) على غرار رغبة محمد علي باشا الآنفة الذكر,, ام هل هي في الحقيقة شبح فشل محمد علي في تحقيق اهدافه التنموية معتمدا على التقنية فقط؟! أم، ياترى، انه امل الوظيفة الموءود في حقيقة البطالة التي ساهمت العلوم الانسانية والعلمية ، على حد سواء بنصيب وافر منها في العالم العربي؟! وفي ظل البطالة التي طالت جميع التخصصات ايهما، اذن، اخف ضررا على المجتمع: بطالة شخص جاهل لم يسعفه الحظ في مواصة دراسة تخصصه (العلمي) ، ام بطالة فرد جامعي بتخصص انساني من شأنه، على الاقل، مساعدته في تحكيم عقله وتبرير اسباب بطالته (عقلانيا)، وبالتالي، كبح جماح غرائزه (العدوانية) وحماية مجتمعه منه؟! اليس هذا هو سبب تشجيع جامعات الغرب لطلبتها من ذوي التخصصات العلمية غالبا على دراسة تخصصات انسانية جنبا الى جنب مع تخصصاتهم العلمية؟!,, وهو المنهج الذي يعرف ب ثنائية التخصص Double Major' وبالمناسبة، لماذا في الوقت الذي يغمط حق العلوم الانسانية في الجامعات العربية نرى اعدادا غفيرة من الشباب على وجه الخصوص وهم يسارعون الى اقتناء اي كتاب غربي مترجم يبحث في مجالات اجتماعية/ نفسية بمعايير ليست من صميم ثقافتنا كأمراض التنشئة الاجتماعية ووسائل ادارة الافراد وطرق كسب المال، وكيف تكسب الاصدقاء، ودع القلق وابدأ الحياة!! ,,، بل كيف تحافظ على زواجك من الانهيار؟!!
ختاما: من المعلوم تاريخيا ان الغرب لم يهزم الشرق عسكريا (باستخدام التقنية) الا بعد ان تمكن من هزيمته حضاريا (باستخدام العلوم الانسانية) وذلك بعد ان سبر هذا الغرب غور العلوم الانسانية وامسك بزمامها مما مكنه بالتالي وقبل ان يشن حربه من ارسال جواسيسه ورحالته ومستشرقيه المسلحين بالعلوم الانسانية لدراسة سيكولوجية وسوسيولوجية وتاريخ العقلية العربية، وآليات وطرائق تفكيرها، ونقاط ضعفها وعناصر قوتها، ونسق نظمها الاجتماعية,, مما مهد لهم الطريق، بل واعطاهم الثقة العمياء في الاتفاق في سايكس بيكو على اقتسامنا قبل اقتحامنا، في الوقت الذي كنا ننتظر (على رصيف التاريخ) انتهاء الحرب الكونية الاولى لننعم (بالوحدة!!) التي وعدونا اياها,.
|
|
|