الروائي الأردني إلياس فركوح رتابة الإيقاع لا تبعث بي أي إحساس بجمال اللغة |
* عمّان حوار علي السوداني
كان لهذه المقدمة ان تدوّن قبل الحوار، وكان الحوار مع إلياس فركوح مؤجلا، ليس بسبب انشغالاته بين دار النشر أزمنة وبين مشروعه الكتابي الخاص، ولكن بسبب يتعلق بتجربة فركوح الابداعية، حيث الكتابة عنده هي عملية خلق فني من جهة وهي اضافة نوعية لا إضافة كمية تستهلك الورق والحبر والاعصاب,!!! القصة القصيرة لديه تأكل شهورا والرواية سنين,, هو يحمل ازميله وينحت في صخر الكلام.
ثم يأتي الحوار ليكون بمثابة النص المجاور او المحايث للمدون الاصلي ولتحمل الكتابة معه وعيها ومشروعيّتها الفنية.
* القصة القصيرة هي رواية مؤجلة، ذلك هو الانطباع الاولي الذي يخرج به قارئ احدى وعشرون طلقة ومن يحرث البحر وطيور عمّان تحلّق منخفضة .
هذا يقود بالتالي الى السؤال الاكثر تحديداً:
* هل القصة القصيرة هي الثيمة الابتدائية لرواية طويلة؟
أرى انه من التعسف بمكان أن نُطلق رأياً حاسماً، قاطعاً مانعاً، بهذه المسألة,, فالقصة القصيرة تخضع، في حالاتها الجنينية واسوة بكافة مكونات الكائن وعناصره، الى جُملة سياقات تتحكم بكيفية تشكّله، لا بل تتعدى ذلك متدخلة حتى في ماهيته التي سيؤول اليها قبل الوصول الى الجملة الاخيرة جملته الاخيرة هو.
حيال هذا التقديم تنبسط مساحة واسعة لاعادة النظر في كل ما كان يعتبر تنظيرا وتشريحا لبدايات النصوص، أو كيف تُكتب هذه البدايات، ربما ثمة اجتراحات معروفة، او باتت معروفة لبعض بدايات القصص بحيث انفتح المجال امام الدارسين لمحاولات التقعيد لها، او لرسم أطر للبدايات تتسم بما يُشبه الحدود او التحديدات,.
لكنَّ ضروبا جديدة من الكتابات القصصية، بما تتضمن من احتمالات تصيَّرها الى نصوص اخرى فيما اذا شاء كاتبها,, او القارئ لها، مع الاحتفاظ بمكونها الاول كقصة قصيرة في آن ، اقول: إنَّ نصوصا كهذه ما كانت لتحتفظ بإمكانات التصيُّر او التحول الى ما هو كتابة اخرى لولا بداياتها المغايرة تماما لتلك البدايات المألوفة في الماهيّة التي سادت القصص الموروثة.
نحن إذن بصدد الماهيّة أولا.
انا لا ادعي بأن هنالك خروجا كاملا على ماهيّة القصة كجنس كتابي، لكنني في الوقت نفسه، ادعو الى تفحص نقدي يستخدم ادوات جديدة للكتابات المغايرة حيث سنقع على ماهيات داخلية طارئة اصابت البداية وقادت بالتالي وعلى نحو متتال، الى كيفية سيرورة القصة (نموها) وأدت الى صيرورتها الحادثة (ما آلت إليه).
كأنما النص الحديث للقصة نص لم يستو بعد,, ولن يصل الى الاستواء المعروف، لن يصل لا لعجز فيه او نقص، بل بسبب فقدان راحة الركون الى حتميات الشكل والاستكانة اليهما (الحتميات والشكل) عند الكاتب,, كأنما ثمة مراجعة مستمرة للمكتوب تستدعي، على الاغلب، إعادة كتابته ولو بعد حين,, حين يزف وقت الاشعار الآخر,.
قد نقع على الاجابة على سؤالك داخل هذه الرؤية,, نص قصصي يحتمل ان يتشكل، وفقا لعناصر تكوينه المزروعة فيه ابتداء، ليصير مشروعا حقيقيا لرواية, غير ان هذا لا يكفي او لا يكفيني انا على وجه التحديد، اذ يسكنني دوما هاجس العمل على توسيع الهوامش بقدر ما تحتمل، وبقدر ما يحتمل المتن كذلك او ما يفترضه الآخرون من تقليديي النصوص انه المتن النهائي.
هكذا اصل معك الى بؤرة النقاط جميعا: ليس هنالك من متن نهائي داخل الابداع الفني والادبي، اذ كل المتون قابلة لان تتحول من دواخلها، ما دامت تملك بذور ذلك، اما اذا سألتني عن تلك البذور، فإني ارى انها القلق الدائم الذي يستوطن الكاتب، قلق عدم الاطمئنان الى ما هو مُنجز، وقلق البحث عمّا لن يجترحه سواه.
* كتبت القصة القصيرة جدا، وكانت محمّلة كما هو الحال في منجزك القصصي والروائي بطاقة شعرية عالية في مقاربة مدهشة مع قصيدة النثر، وإذا كان الخطاب الشعري من الوجهة الفنية يوظّف في خدمة النص الطويل، فهل ينطبق هذا على فن الاقصوصة الذي يعتمد اساسا على اللمسة السريعة والتكثيف والاقتصاد اللغوي؟
* ليس سهلا، كما كان الحال في سؤالك السابق، العثور على اجابة واضحة الحدود تحيط بسؤالك الراهن هذا لتستوفيه حقه من الاشباع،، فنحن ما زلنا حتى اللحظة ضمن دائرة الاجتهاد بدافع القلق، دائرة البحث عن نص مغاير هي، في الوقت نفسه، دائرة البحث في هذا النص المغاير أو ما يحاول صاحبه ان يشكله على نحو مغاير.
وما دام توصيفنا ينحصر في مفهوم البحث، فإنَّ الدائرة التي نتحرك فيها دائرة مفتوحة غير مُغلقة,, دائرة تحتمل الاجتهاد الذي يصيب حينا ويخيب احيانا, اذن، نحن نعيش حالة حوار لغاية العثور على ملامح اجابة، وربما احتمال اجابات حتى، ولسنا بصدد التقرير والبت في المسألة قيد الحوار.
حقا انا لا اعرف تماما ما الفارق الجوهري المقصود بين الطاقة الشعرية والخطاب الشعري الذي افترضته في سياق سؤالك, لكنني قد ألامس ذلك خلال حواري الذي سوف اشرع به منطلقا مما اعرف، وليس مما لستُ على دراية كبيرة به.
فأنا اعرف ان الكاتب، لحظة الكتابة، يتحول الى كائن كلي الوعي، لا بل متوتر الوعي، يقظ تماما على جزئيات عمله في كل نأمة تتخلل الكلمات او تسبقها,, او تليها,, هي نأمة مركبة يتكثف الوعي فيها بكامل مخزونه المعرفي واللغوي ودربته الفنية، إضافة الى قدرته التخييلية, عند هذا الحد يمكننا القول بأن هناك تدبرا مقصودا، مرتبا، منسقا ربما يسبق الشروع الفعلي بالنص,, او ربما يرافقه, غير ان هذا الحد في تصوري، لا يكمل شرط الاحاطة بالكتابة لحظة الاشتغال عليها فعليا وهذا ما اريد الوصول اليه لبناء ارضية اجتهادي كإجابة على سؤالك، ذلك لأن الحد الثاني له صلة بما يمكنني تسميته بالميكانيزم الداخلي للنص .
لا شك انك تدرك بأن ثمة الجانب المتفلت من قبضة الوعي، الجانب المحتفظ بطاقته الخاصة المتأبية على ان تكون رهينة للوعي الموصوف سابقا, إنها طاقة اللغة تحديدا، وإنها طاقة لغة كاتبها على نحو أدق,, هذه واحدة من عناصر ميكانيزم النص الداخلي التي ليس بمقدور التدبر والتنسيق المسبق ان يحيط او يتحكم بها، تلك مسألة بحد ذاتها كافية لأن تشكل نقطة ارتكاز لفهم آلية نمو وتكوّن النص، إضافة الى قدرة التخييل الفالتة هي ايضا من قبضة الوعي، بل اجرؤ على القول بأن لهذين العنصرين، اللغة والتخييل، سطوة كبيرة ذات تأثير في تحديد النص وتأطيره,, او في توسيع فضائه وإطلاق قوة الاحتمالات في تفسيره.
عند التقاء هذين الحدّين ضمن رؤية تعي الواصل بينهما، كما تعي، ايضا الفاصل لهما وخصوصية كل منهما، عندها نكون على مشارف إمساكنا بملامح الاجابة.
فاللغة واحدة عند الكاتب الواحد وان تحركت نصوصه بين الاجناس، او تنقّلت بين فروع الجنس الادبي الواحد,, ليس هذا وحسب، وإنما هي اللغة ذاتها (وربما يراني البعض مبالغا في هذا) تتقدم العناصر جميعها لتقود النص الى تركيبه الخاص، والى ما سوف يؤول اليه عند جملته الاخيرة,.
تتقدم اللغة لتستثمر المخزون المعرفي مستعينة بالدربة الفنية لتشيد، مندغمة بقدرة التخييل، بُنية ذات خصوصية مشروطة براهن لحظات النص: اي خلال تحققه بالفعل، فاذا كانت لغة الكاتب ذات خصيصة شعرية في جوهر مُبتناها، اي تملك في ذاتها طاقة شعرية ليست مُستلفة وليست مؤقتة وليست غريبة او هجينة، فإنها ستبقى سيدة نصوصه كلها,, لا فرق، في الحالة هذه، بين نص طويل ونص قصير,, او نص قصير جدا أليس كذلك؟
ثم ، لا بأس بقليل من الاستطراد: ألا ترى معي ان النص القصير جدا قد يكون بالمقياس النسبي، الانسب لأن يتأثث بلغة ذات طاقة شعرية تمده بتعدد الدلالات دون اللجوء، او بالاحرى بدلا من اللجوء الى الثرثرة او النثر السردي الطويل؟
هنا اجدني اتريث لأطرح عليك سؤالي: ماالخطاب الشعري في كل ما تحدثنا عنه؟ ولسوف اجيب أنا الآن عن الفارق بين الطاقة الشعرية للغة، والخطاب الشعري كما فهمته بناء على الارضية المفروشة امامنا.
إنَّ الخطاب الشعري هو كلية الرؤية الواعية لدى الكاتب، وهو ايضا ما ينفثه النص على امتداده الطويل,, او القصير,, بمعنى آخر: أنت لا تملك فكاكا من ان يتضمن نصك خطابا شعريا إذا كنت تحوز رؤية شعرية للعالم,, وهذا بذاته، واشدد على (بذاته)، لا يشترط بلغة الخطاب ان تكون محمّلة بطاقة شعرية.
اما الطاقة الشعرية فذات صلة باللغة اساسا واولا، بصرف النظر عن رؤية كاتبها للعالم, اجتهد في هذا، مستندا الى اقتناعي الكبير بأن نصوصي ترى الى العالم وعناصره عبر رؤية اقرب الى الواقعية منها الى اي منظور آخر,, ترى الى العالم بكليته كما هو، بلا تزييف او تزوير لوقائعه لكنها، مع هذا تتعامل معه ومع عناصره بلغة تحيله الى ما هو ابعد أو اعمق منه: الى ما هو اكثر غورا فيه، والى ما يتعدّاه مكثفا إياه في صوره المتعددة، تلك التي احتفظ بها في ألبومي الشخصي.
واختم ملامح اجابتي باسئلة اعرف الردود عليها:
أوليس النص الادبي، في النهاية وبعد الانجاز وعند تعدد قراءته وتعدد القراء له هو كائن من لغة؟ أوليست اللغة هي ذاكرة الكاتب؟
أوليس النص، بالتالي، ذاكرة الكاتب عبر لغة تحفظ العالم وتختزنه كما يراه,, او كما يجترحه، بالأحرى؟
* بين الناشر والمبدع ثمة إشكالية، كونك ناشرا وكاتبا في آن واحد، كيف تتعامل بحيادية مع الاثنين؟
اذا احتكمنا للاصل في الاشياء، فإن تكاملا لازما يتخلل العلاقة القائمة بين الناشر والمبدع, فبغير وجود للناشر يبقى الابداع معزولا عن قرائه، وبعيدا عن الاسواق التي من المفترض ان تستوعب جملة النتاجات المكتوبة.
صحيح ان للناشر منحى تجاريا يتجلّى في اضطراره لأن ينظر الى الابداع على انه سلعة يمتحن إمكانية قبولها او الاعتذار عنها، بصرف النظر عن مضمونها الابداعي، الا ان الجانب الآخر للصورة يقضي بأن نعترف للناشر بحقيقة خضوعه هو الى القانون المتحكم بالسوق: قانون العرض والطلب, هذا هو المجال الذي يتحرك فيه الناشر (السوق)، ووفقا للطلب وإشاراته المقروءة من خلال جرد المبيعات يكون بإمكانه بناء خطة نشره.
إن كلامي هذا يتوخى الموضوعية قدر الامكان، وينحو باتجاه التوصيف الذي لا يداخله الشك، وينظر الى العملية بعموميتها والمبدأ فيها, على ضوء ذلك كله يتحصل لدى الناشر رؤية ذات حساسية قد تجرح، في بعض خلاصتها، اعتداد المبدع بنفسه وبإبداعه.
من هنا تنبع الإشكالية التي نحن بصددها.
فالمبدع يشير الى الناشر قائلا، او متفكرا: إنه تاجر يتاجر بجهدي , هذا صحيح, لكنّ غير الصحيح يتمثّل في روحية الاتهام والتشكيك وسوء التقدير, فما دام الناشر يوظّف ماله في صناعة الكتاب المتضمن نتاج المبدع، فمن الطبيعي والمنطقي والحال هذا ان يتدبّر قراره جيدا حتى لا يخسر, إنها ضرورات تأتي من الخارج, من دائرة تتعدى الاثنين وتتجاوزهما، لكنهما، ووفقا لطبائع الامور، لا يستطيعان الانفكاك عنها.
ضمن هذه الصورة يجيء سؤالك عن كيفية تعاملي، بحيادية، مع الاثنين.
اولا، انا لا اعرف ان كنت اتعامل بحيادية مع وضع يشطرني الى اثنين، كل واحد منهما يملك منطقا خاصا يرى من خلاله التفاصيل، فالحياد وسط هكذا وضع لا يعني سوى الانفصام في الشخصية، وتلك سمة تشير الى اختلال اساسي ضرب الذات وضرب، كذلك، اي صيغة توازن فيها, والحياد، كما نعرف جميعا، لا يكون بغير توفر حالة توازن.
إذن، ربما يكون الوصف المعقول لكيفية تعاملي هو التوازن, وانا في هذا انسجم الى حد كبير وتوازني الافتراضي في مجالات اخرى,,, او ما أحاوله باستمرار.
لكنّ للأمر وجوهه المختلفة، خاصة حين نتناول تفاصيل العمل وارتباطها بالابداع، فهي (أي التفاصيل) تعمل على كشف العديد من الحقائق او الوقائع التي يجهلها المبدع فيما يتعلق بالنصوص التي تندرج في اطار كتابته, فعبر التفاصيل تتسع الرؤية بحيث يتاح لي الاطلاع على مدى تقبل القارئ العام للاعمال المثيلة لعملي مثلا, عندها تنكشط طبقة الوهم بخصوص مسائل كثيرة, عندها تتبدى المساحة الهائلة التي تفصل الابداع عن قرائه المفترضين الجمهور بمعنى ما, عندها، ويصير الحديث عن النخبة مسلحا بالارقام، تصير النُخب بحاجة الى اعادة نظر لكي يتم فهم موقعها وإمكانات خلق دور لها وسط مجتمعات اصابها فقر ثقافي مبين.
على ضوء ذلك كله، كيف لي ان اكون محايدا ؟,, الحياد بمعنى الاكتفاء ببرودة العقل المحض؟ حقا انا لا استطيع المحايدة هنا, لا استطيع، دائما التمترس خلف صلابة الارقام، وترك المبدع الآخر يضيعُ صوته في قحط البريّة,, عندها يطلع صوت الكاتب فيَّ ليرجح الكفّة لصالح النص، ضاربا عرض الحائط بقانون السوق: العرض والطلب، وهكذا, تتوالى الخسائر فأضع حدا لها لفترة ما, اتوازن قليلا، فأعاود الكرة, وهكذا دواليك.
إذا كان ثمة تميز ما في دار نشري الخاصة، فإنه عائد الى الصوت والجوهر فيَّ: الى الكاتب الذي يجاهد ما امكنته الظروف لكيلا يقع اسير الارقام الصماء بتمامه, فالحياة تحتاج الى قدر من الانفلات والخروج على صرامة القوانين, تحتاج، ربما الى كثير من الطيش الحميد الذي احاوله في بذر الابداع على ارض يابسة قد لا تجرفه الرياح, قد,.
اختصر الاجابة: انا كاتب أولا، وناشر,, عاشرا بعد المائة: ناشر سيبقى هاويا.
* لك مساهمات كثيرة في حقل الترجمة الأدبية، هل يؤثر ذلك على نصوصك بوصفه وعيا مكتسبا؟
هذا وارد دون أدنى شك.
وهذا بمثابة تحصيل حاصل ، اذ كيف بإمكانك الافلات من التفاعل اقصد مجافاة كلمة تأثر مع النصوص التي تعمل على ترجمتها، او نقلها على نحو أدق، خاصة إذا ما امتلكت تلك النصوص عناصر استهوتك قبل الاقدام على ترجمتها؟
الترجمة، كما علّمتني، درس كبير في كيفية القراءة: درس مفيد في أهمية الاصغاء الكلي للآخر حتى آخر كلمة: درس إضافي في الاحترام المطلوب ليس لرأي الآخر فقط، بل لفهم اسلوبه كي يعبر عن هذا الرأي, إن الدخول في عملية الترجمة، والانغماس الكامل في السطور بكلماتها المتضمنة لأكثر من بديل لها بالعربية يحملك، بوعي كبير جدا، لأن تدقق طويلا في كل فقرة تكتبها أنت وتشكل من خلالها نصك الخاص.
صحيح انني في الاصل اعمل على ان يكون نصي دقيق الوعي على العلاقة فيما بين الكلمات وامكانات دلالاتها المتعددة,, وصحيح ان بنائي لنصوصي يتصف بهندسة ما تُحيل قارئها الى معاودة التدقيق فيها لا للتأكد من المعنى وحسب,, بل لاكتشاف كيفية البناء, لكن الصحيح ايضا، هو ان تجربتي المتواضعة في الترجمة كرست كل هذا واضافت اليه.
إن الوعي المكتسب لا ينحصر في الحيثيات الفنية لنص الآخر المترجم على أهمية ذلك، بل يتجاوزه الى الامساك بآلية التفكير لديه أو ما اعتقده كذلك, فأنت لا تنزلق على/ او تُقيم علاقة مؤقتة مع النص، وإنما تحفر فيه حتى مستوياته التحتية التي لا تتوفر لغالبية القراء, وبذا، فأنت تحقق صيغة جديدة من صيغ مشاركة الكاتب في كتابة نصه,, ثمة شراكة عن بُعد لم تكتف بالقراءة التأويلية، إذ قطعت شوطا أطول عندما اعادت كتابة النص بالمعنى الحرفي (الترجمة/ النقل)، وبالمعنى الابداعي (تركيب لغوي جديد آخر، وتفسير مجتهد للمفردات).
حيال هذه التجربة، ونتيجة لها، سوف تجد نفسك في مواجهة مع نصك الخاص, تبدأ بطرح الاسئلة عليه/ عليك، ولا تجد ملاذا من عملية المقارنة مقارنة ما، بحسب بُعد أو قُرب نص الآخر من نصك, هي ليست عملية مفاضلة بأي حال من الاحوال، إن كنت على ثقة بنصك وتأسيسك له، وإنما اقرب الى تحسس للجهة التي يتموضع نصك فيها بالمقارنة مع نص الآخر، ثم تشرع بالبحث عن المشترك الذي، لابد، كان دافعك الخلفي او نصف الواعي للقيام بترجمته، ويتلو ذلك الوقوع على المختلف فيه,, وبالتالي في نصك,.
من خلال ذلك تكتشف نصك انت.
انت تعمل على الاصغاء الى تفصيل التفاصيل في ترجمتك لنص الآخر، فإذا بك تكتشف نصك أنت على نحو غير مسبوق لك او لغيرك، فيكون (بحسب تعبيرك) وعيا مكتسبا بكل تأكيد.
* نعود الى الشحنة الشعرية التي تميز نصك,, هل كتبت الشعر، او حاولت كتابته؟
انا لم اكتب الشعر يوما، ولم احاول كتابة القصيدة ابدا، ولستُ من المغرمين بالشعر عموما، وذاكرتي لم تكن منذ صباي قادرة على حفظ قصيدة كاملة.
وللحق، اصارحك بأنني لا اطمئن الى القسط الاكبر من الشعر الذي يُنشر مؤخرا, ثمة جفوة غير قادر على تحديدها تحول بيني وبين المتعة المفترضة حين القراءة والتمعن بها,, ثمة فجوة تمتد بين ذائقتي وكثير جدا من الكتابات التي تتقدم بصفة انتسابها للشعر.
ربما يكمن التفسير في نفوري من كل ما هو ايقاعي رتيب، اذ ان رتابة الايقاع تصيبني بالضجر ولا تبعث بي اي إحساس بجمال اللغة, هذا ما ورثته منذ ايام المدرسة عبر المحفوظات المقررة التي فشلت في ان تصيبني بالدهشة، او ان تستوقفني لجانب جمالي فيها, ذلك يتعلق بالقصيدة العمودية كما وهو واضح، خاصة ما تم اختياره للطلبة من شعر نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين,, زد على هذا وعورة الكلمات، بالنسبة لصبي صغير، الحافلة بها قصائد العصر الجاهلي وما تلاه حتى العصر الاموي فالعباسي (انا اتكلم الآن على الجسم الاكبر للشعر العربي).
وإضافة الى كل هذا، ربما يكون هنالك سبب آخر للنفور يتمثل في كون الشعر هو المادة المعتمدة اساسا لدراسة العَروض وقواعد اللغة العربية, لقد نجح كل من العروض وقواعد اللغة في اقصائي عن الشعر، كما قُرر عليَّ، إذ بات الاخير يمثل امامي حين يتجبّر الاثنان في تعليمي الأصول.
الأصول والقواعد يساويان، عندي، القوانين, والقوانين حدود كنت وما زلت غير قادر على استلطافها.
لست أدري كيف انهي الاجابة , لكني اعتقد بأنها موجودة في جوهر ما قلته الآن.
* الذي يقرأ أعمدة الغبار يستطيع أن يتحسس ذلك الغبار المتصاعد نتيجة تكسير الجدران والحواجز القائمة بين الفنون، حيث يمتزج القصصي بالروائي والشعري.
هل يعني هذا ان الفنون الكتابية بدأت تنفتح على بعضها باتجاه خلق النص الشمولي ؟
علينا عند النظر في هذه المسألة، ان نتوخى الحذر الشديد وان نحاول الدقة, لقد قيل كلام كثير حول الموضوع، وصرفت العديد من التصريحات المؤكدة لواقعة انفتاح الفنون او الاجناس الكتابية على بعضها البعض, ومع انني اتفق ومبدأ الاجماع على هذا الانفتاح، إلا أن تعاملي معه وفهمي له يتصفان بنسبة تردد كبيرة, ذلك لأن لكل نص خصوصيته، ولكل كاتب ايضا، تجربته المختلفة.
انطلاقا من النقطة الاخيرة نكون خطونا من العموميات باتجاه تشريح كل نص على حدة، بما يفيد تعدد أشكال او صيغ التوظيف لعنصر من عناصر الجنس الوافد على أولية الجنس الكتابي قيد التخلق, فالدعوة الى انفتاح الأجناس على بعضها ليست مطلقة أبدا، إذ كمايخيّل اليّ، توجبها ضرورات لا مندوحة عنها آتية من داخل النص, هي ليست دعوة طائرة في فضاءات الكتابة بغير ما سبب، يتلقفها الكاتب ليرصّع بها نصوصه مقتفيا هذا التحول الملحوظ, كما ان إدخال عنصر او اكثر من جنس كتابي على آخر ليس رهنا بالرغبة المحضة لدى الكاتب، كأنما الأمر لا يخرج عن كونه عملية استعارة مؤقتة، او ملء لفراغات النص بما لا يتسق ولا يستقيم ولا يخدم,, في النهاية.
نعم، ثمة انفتاح للفنون على بعضها، لكنّ كيفية هذا الانفتاح لا تحدده سوى كلية البنية الثقافية للكاتب التي ترسم، بدورها، ملامح مشروعه الخاص, ينبغي تتبع المشروع من أوله، ورصد الانزياحات الاجناسية عبر تحولاتها البادية في نصوصه المتوالية، كي نعي تماما لماذا كان الانفتاح وماذا قدم للنص,, أو بالاحرى: ماذا قدم لنا هذا النص على صعيد ما يُسمى الكتابة الجديدة .
نحن إذن حيال كتابة جديدة، كتابة مختلفة تغاير المألوف والسائد نتيجة حتمية للمغايرة في الرؤيا والرؤية لدى صاحبها/ اصحابها,, أي ان هنالك خطابا جديدا خطابا لم يمتط الفن ليكون مقروءا، وإنما هو خطاب فني اولا انصهرت فيه رؤية صاحبه للعالم، فكان على غرارها.
هكذا أفهم المسألة، بعيدا عن شبهة الانقياد للتحول الجاري على النص الروائي بغير تدبر واع, ناهيك عن السؤال المنسي في اغلب الاحيان، ألا وهو: هل يمتلك من يخوض كتابة نص مفتوح الاجناس، في الاساس من بنيته الثقافية والفنية، جماع تضافر الرؤية المغايرة مع روحية الشعر المستوطنة في لغته؟ إني احيلك الآن الى ما سبق وقلته في معرض اجابتي على سؤالك عن الطاقة الشعرية في قصصي وروايتي,, إذ كيف بإمكان كاتب ما ان يدخل الشعري في نصه النثري دون تحليه، في مبتدأ الامر، بلغة لها خصيصة ذلك؟!
هذا جانب، اما الجانب الثاني، فعن علاقة ذلك كله بالجنس الكتابي الاول الذي يتم تطعيمه بعناصر وافدة من جنس كتابي آخر أو اكثر,, هكذا الى النص الشمولي الذي تُشير في سؤالك عن احتمال تكونه,, ففيما يتعلق بي، فإني عند كتابتي لأعمدة الغبار لم يكن همّي ان اجترح نصا مغايرا في جنسه للأجناس القارة، بقدر ما كان انشغالي منصبا على انجاز نص روائي يحوز، في جملته الكاملة، لرؤيتي الجامعة لكل من العالم وتشكل الخطاب المغاير وفقا لها, غير ان صدى ذلك، لدى من اطلعوا عليه، لم يكن واحدا بالتأكيد، فمنهم من رأى فيه، رغم شتى الانزياحات، رواية لم تخن صلب جنسها، ومنهم من اخرجه تماما (كما حدث ايضا مع روايتي الاولى قامات الزبد ) من الجنس الروائي, واطلقه، هكذا، في الفراغ كأنه نبت شيطاني, ومنهم من لم ير فيه غير فائض لغة لقصة قصيرة ترهلت على مدار الصفحات.
عند معاينتنا لهذه الاصداء نُعيد اكتشاف مدى التفاوت في الوعي والاستيعاب الفنيين للنصوص المغايرة، كما لو اننا نكتشفها لأول مرة, ثمة تفاوت في الحساسية، وبذلك ثمة تفاوت في الاستجابة,, فالمألوف السائد يقبع صنما راسخا في اذهان تقليديي النصوص كتّابا وقراء ونقادا يقيسون عليه كل جديد,, فإذا جاء على غرار الصنم المقدس ضموه اليه, وإذا جانبه كثيرا او قليلا طردوه من فردوسه/ فردوسهم هم, فالامر، في حقيقته، لا يخرج عن منطق الاسلاف الذي لا يرى في الجديد المغاير لدى الخَلَف غير المروق الذي يتوجب عليه عقابا أقله الخلع عن القبيلة,, مرورا بنبذه واجتنابه,, انتهاء بمباركة بطحه على نطع الذبح.
فهل نحن باتجاه كتابة نص شمولي على قاعدة ما أقول؟
ربما, لكنَّ هذا، كما آمل، لا يعني عجز الجنس الكتابي الواحد عن الاكتناز بالمغايرة الواعية او اثراء خصائصه بانفتاحه على اجناس اخرى تتيح له ولوج فضاءات أو أغوار لم تكن في عداد الرؤيا لكل من الأسلاف والسلفيين يوما.
|
|
|