كان رودان يعيش على هامش الحياة, مجرد صبي يعمل في مصنع (كارييه بيلوز) المتخصص في زخرفة واجهات القصور ولا يزيد اجره اليومي عن خمسة فرنكات!! إنه (صنايعي) وليس فنانا بدليل ان مدرسة الفنون الجميلة ثلاث مرات متتالية كانت ترفضه كطالب، لا بأس، وهناك متحف اللوفر والمكتبة الامبراطورية يستطيع رودان ان يتردد عليهما ويتعلم وبالفعل كان يفعل,, هناك ايضا الكاتدرائيات قوطية الطراز، حيث الروعة والمهابة وقوة التماسك وثمة اضواء وظلال تتسرب بين الكتل المعمارية الشامخة تحت سماء ملبدة بالغيوم.
ان الطبيعة هي افضل معلم، هذا ما تعلمه رودان فكان دائم الترديد فيما بعد: (ان الطبيعة ليست دميمة على الاطلاق فحسبكم ان تقتصروا كل همكم على الولاء لها,, ان كل ما في الوجود جميل في عين الفنان: لان بصره النفاذ يستشف كل موجود وفي كل شيء ما فيه من طابع خاص,, اعني تلك الحقيقة الباطنة التي تتبدى من وراء الصورة),لقد وجد رودان نفسه يعلم نفسه بنفسه بعيدا عن المؤسسات الرسمية، كما انه يكد ويعمل بيديه كي يوفر قوت نفسه، وفي اثناء عمله في زخرفة مسرح (جوبلان) تعرف على فتاة ريفية تدعى (روز بوريه) كانت بائعة بسيطة في احد المحلات, وقد اثمرت العلاقة العاطفية بينهما طفلا صغيراً اعترف به رودان لكنه ابى ان يمنحه لقبه فحمل الطفل لقب الام (بوريه)! كذلك رفض رودان ان يعقد على زوجته رسميا, ورضخت روز بوريه وبدأت الحياة معه في حيرة واسعة تملؤها الشقوق وتعصف بها الريح ومع ذلك اتخذها رودان سكناً ومرسما,, وفي اول فرصة للسفر ترك رودان (روز) وطفلها في رعاية ابويه وذهب مع شريكه (بيلوز) لزخرفة دار البورصة في بروكسل,في تلك الفترة اندلعت الحرب الفرنسية البروسية عام 1870م وتواترت الانباء ان النيران اشتعلت في كل مكان بباريس وان مئات الضحايا يتساقطون في الشوارع والطرقات فاضطر رودان الى البقاء في بروكسل، وهو دائم التفكير في زوجته وابنه لا يستطيع ان يفعل اي شيء سوى ان يرسل سوى بعض الفرنكات والخطابات مع الاصدقاء, والمؤسف حقا ان شريكه وصديقه بيلوز يسطو على اعماله ويشتريها بثمن بخس بل يزيفها ويستنسخها احيانا فلم يتحمل رودان انانية صديقه فشكاه فما كان من بيلوز الا ان رد له الصاع صاعين حيث عاد الى باريس وتركه وحيدا مفلسا في شوارع بروكسل ينتظر ان تضع الحرب اوزاها.
والى ان يحدث هذا عليه ان يبدأ,, يبدأ من جديد,, هذه المرة مع شريك بلجيكي ربما لا يقل لصوصية عن شريكه الفرنسي لكنه اتاح له ان يوقع على اعماله التي تسافر الى وطنه فرنسا وحين تحسنت الاحوال ارسل الى زوجته كي تقطف معه ثمرة النجاح.
وبدلا من ان يواصل النجاح في بروكسل قرر فجأة ان يعود الى باريس مرة اخرى، لقد سئم ان يظل مجرد حرفي ماهر,, لماذا يوقع باسمه على بضع الاعمال ويترك بعضها الآخر نهبا لشركائه؟! وبمجرد ان عاد الى الوطن اتخذ مرسما فوق قمة مونمارتر وما هي الا فترة وجيزة حتى تأججت وقدة الفن بداخله وقرر ان يسافر مرة اخرى بحثا عن الفن في مدرسة الحياة والطبيعة.
واضطرت روز بوريه ان ترضخ مرة اخرى لسفره!! هذه المرة الى روما بمتاحفها البديعة وبأعمال ميكيلا انجلو الفريدة, ونظرا لانه لا يملك اكثر من سبعمائة فرنك اضطر للسير على قدميه مسافات طويلة وفي بعض الاحيان يركب قطارا.
انه فنان بري متوحد مع نفسه تمام التوحد لا يبغى سوى ان يعترف الجميع بعبقرية فنه لا بأس من ان ينفق آخر فرنك معه، وان يدمي المشي قدميه,, لا مانع من ان يكد ويشقى ليل نهار الى ان يعترف الآخرون به فنانا بريا وابنا بارا للطبيعة، وها هو يعود الى باريس ويتقدم الى الصالون الذي رفض اعماله من قبل بتمثاله الشهير (رجل من العصر البرونزي), وكانت الصدمة الكبرى بدلا من ان يشيد النقاد بحيوية التمثال وروعته قال بعض النقاد انه يقلد ميكيلا أنجلو في المبالغة وضخامة عضلات الجندي وقال بعضهم الآخر انه صب قالب الجص على جسم الجندي, البلجيكي الذي اتخذه نموذجا!!, والحقيقة انهم ذهلوا,, اذ كيف يتسنى لمثال مجهول ليس له شأن يذكر بين فناني عصره,, كيف يتسنى له ان يبدع مثل هذا العمل؟ وليدحض رودان مزاعمهم بدأ عملا آخر واتاح لسبعة فنانين ان يراقبوه وان يروا كيف تنغمس اصابعه في الطمي فتشكله فنا.
اعترف الفنانون السبعة لرودان بالعبقرية ومنحته الحكومة ميدالية الطبقة الثالثة, ومع هذا لم تنته موجة السخط والاستنكار,, تارة يقال انه يخفي عجزه تحت ستار الملابس وتارة يقال انه خارج على التقاليد وادب اللياقة لانه يصف ادق تفاصيل الجسم البشري, كما ان معارضه التي اقامها في لندن وشيكاغو والسويد قوبلت بهجوم شديد ربما لانه ابدع للناس ما لم يألفوه من قبل!! لكنه لم يجن من التمرد الا مزيداً من الاحباط والفشل الى ان دخلت حياته شابة صغيرة تدعى (كامي كلوديل) فجددت حياته بمرحها ورقتها وبريق عينيها الخضراوين، فارتبط بها رودان دون عقد رسمي ايضا بجانب زوجته الراضخة امام غزواته العاطفية والمنكفئة على ذاتها صريعة للقلق والغيرة والصدمات العصبية.
ورودان لا يبالي الا بفنه,, لا تهمه زوجته في شيء او هكذا يبدو,, كما لا تهمه مطالب الجمهور وذوقه الكلاسيكي, انه يضرب بأزميله في الصخر باحساس جمالي متوقد وانسانية شاعرية في اتجاه مواز لتأثيرية فن التصوير, يشعر بوهم الحركة وتموجات الضوء على سطح التمثال وهو يتشكل، وتجلت موهبته اكثر في التعبير السريع عن الجو المحيط الذي يغلف جسم النموذج كأن لكل تمثال لغة خاصة يتكلم بها,مع ذلك رفض الجمهور ثورته الفنية كما رفضته من قبل مدرسة الفنون الجميلة ولم يتخيل حكماء صالون باريس حين سخروا من اعماله، انهم يقفون امام عبقرية شامخة,, امام رائد فن النحت في العصر الحديث!! لكن ليس اوجست رودان بالذي ينطفىء بداخله عنفوان الابداع لمجرد عدم التقدير.
لقد انتزع الاعجاب من الجميع بصبره وفنه فحسب وابداً لم يعرف هذا الانسان الجبلي معني الانهيار الا مع ويلات الحرب العالمية الاولى، ومع امراض الشيخوخة وصراع المرأتين من حوله (روز بوريه وكامي كلوديل),وفي احدى الامسيات تجمع الاصدقاء حول الفنان العجوز يبدون رغبتهم في الاطلاع على وصيته وسألته احدى السيدات: ألم يحن الاوان لتعلن رسميا زواجك بمن قدمتها في كل المجتمعات وخلال خمسين عاما باسم مدام رودان؟!
فأجابها: انك دائما مصدر الافكار الطيبة ولنحتفل بعقد القران في منزلك, وفي يناير عام 1917م كان حفل الزفاف الذي تأخر خمسين عاما وانسحبت كامي كلوديل من حياته بعد كل هذا العمر لتخط قواها وتحتجز في احدى المصحات النفسية, في حين لم تتحمل روز بوريه فرحة الزواج وماتت قبل ان تكمل شهر العسل وهي عجوز في الخامسة والسبعين, وعاد رودان وحيدا كما بدأ تحيطه سحابة سوداء من الحزن والذكريات، يعاني عزلة تامة بعد ان حصرت الحكومة جميع اعماله بفندق بيرون ولم تسمح له برؤية فنه الا مرة واحدة كل اسبوعين، فكان يسير بمفرده يداعب الهواء بأصابعه كأنه يبحث عن قطعة الطين كي يشكلها,, يبدو واجما كئيبا مثل وجود تماثيله الصارمة التي لم تعرف الابتسامة ابدا,, وفي شهر نوفمبر سقط فجأة كتمثال من الصلصال يتهاوى امام نهر الزمن الجارف,.
شريف صالح