قراءة في المشروع الفكري والنقدي لأحمد بوقري د, محمد صالح الشنطي |
** في كتابه الريح والمصباح مقاربات في الفكر والابداع يقدم احمد بوقري خلاصة مشروعه الثقافي الذي يتحرك في مجالات ثلاثة: الفكر والنقد النظري والنقد التطبيقي، وهو مشروع متكامل ومنسجم ينهض على أسس محددة تتمثل في تلك العلاقة بين النظري فكرا ونقدا والاجتماعي التاريخي، وهو اساس الرؤية الواقعية التي تهتم بالمتغيرات في اطارها الزماني والمكاني بكافة متعلقاته، باعتبارهما يعززان الرؤى والافكار ويحددان خصوصيات الطرح ولكنه يؤكد على أمر بالغ الأهمية في مقدمة الكتاب يتمثل في ان نصوصه توالدت في سياقات خطابية لم تكن متماثلة مع واقعها، ولكنها كانت دالة على مرحلتها ومستويات همومها واشكالاتها محاولة الانقلاب من صرامة النسق، ويشير الى انه يحاول الاسهام في تشكيل وعي نقدي حقيقي، ليس على مستوى النص النقدي المستند على النص الأدبي وحسب، بل على مستوى النص الفكري المستند على نصه الاجتماعي وزمنيته وحراكه التاريخي كما يقول.
وتندرج مقارباته الفكرية في اطار عقلنة المشروع الحضاري العربي، وأرى ان ذلك اثراء لهذا المشروع واجتهاد يصب في هذا الاتجاه ومحاولة تجسير الهوة بيننا وبين العصر العلمي بمنجزاته وتحدياته، لذلك نجده يركز على المنطلقات التنويرية وعلى وعي التراث وقضية الهوية والعولمة من اجل تأصيل القاعدة الاساسية لتشكيل الوعي حتى اذا انطلقنا في آفاق العصر بقينا مشدودين الى هويتنا وحضارتنا الخاصة فلا نغيّب في فضاء بلاحدود ونبقى بلا جذور,ولعل هذا الكتاب يتضمن محاولة من اشمل المحاولات لتقديم المشروع النقدي الواقعي على الساحة في مستوياته المختلفة، وهي محاولة تحمل خصوصية هذا المشروع من حيث الاصرار على التحرر من صرامة النسق أي الدوغمائية التنظيرية والغاء الآخر والاصرار على التفرد في تقرير ماهو صواب وماهو خطأ كما يقرر الكاتب في المقدمة.
** والانفلات من ربقة التخصص بالانتقال من خطاب الى آخر من اجل الاسهام في تأصيل الوعي على صعيد النظر النقدي بتأكيد الانبثاق الفكري من الاجتماعي والتاريخي في سلسلة محكمة الحلقات وفي تراتب مدروس املا في ان يكون هذا الوعي المؤصل في جذره التاريخي منتميا الى الحضور المعرفي والممارسة في قلب العصر وحضارته من خلال البدء بنقد الذات، لهذا فقد بدأ نقد العقل العربي نافيا ما يتصل بالتمايز العرقي او البيولوجي في توضيحه لماهية العمل مؤكدا الطابع الاجتماعي والخاصية الثقافية مرجعا الخلل الى مرحلة الانقطاع الاجتماعي والنفسي لعمل المرحلة الاستعمارية ومضاعفاتها التي فصلت بين هذا العقل وطاقاته الخلاقة لافتقاده الحرية اذ لم تكن هذه العقلية تمتلك قرارها كما يقول، ويؤكد ان العقلية المعاصرة متغيرة وليست نسقا صارما اذ تتمايز باختلاف البنية الاجتماعية.
ويعرف العقلية في انها تلك التي تهيمن على الحياة وتؤثر في تشكيل الصورة العامة لملامح التوجه الاجتماعي في المستوى العام، ويصف العقلية العربية بأنها عقلية غير متسقة يعيش مرحلة تجمد بنيوي غير طبيعي ومنطقع عن نقطة التطور التي بلغتها قبل هيمنة الاستعمار الذي اقام علاقات جديدة تنهض على التبعية الاقتصادية والثقافية.
وقد كان العقل والعقلية موضوعا للجدل والمناقشة لدى العديد من المفكرين غير الجابري، ففي ذات الاتجاه الذي اختطه الجابري عن العقل الذي يرى انه نمط في التفكير منضبط بفعل منظومة ثقافية افرزته هناك كتابات الدكتور مصطفى التير التي تنظر الى خصائص الثقافة من خلال عناصر اربعة تتمثل في المعارف والمعتقدات والقيم واللغة، ولما كانت الثقافة نامية متغيرة فان نمط التفكير فيها يخضع للتغير فينتقل خلال عدد من الحقب التاريخية, من هنا كان نمط التفكير الخاص يخضع لجملة من العوامل لدى كل امة، ولكنه يحتفظ بخصائص تترسخ شيئا فشيئا في ضوء خصائص الثقافة في المجتمع، وصفات نمط التفكير قابلة للتعديل والتغيير، ولكن ببطء، لذلك فان نمط التفكير العربي تأخر فيه الجانب العقلاني وتقهقر تاركا المجال لجوانب غير عقلية.
وفي اعتقادي ان احمد بوقري في الجزء الفكري من كتابه ينظر الى العقلية على انها نمط تفكير متغير، ولكنها في راهنيتها عقلية مأزومة، وربما بدت مظاهر الازمة عنده متمثلة في خصائص سبق ان اشار اليها الجابري حين تحدث عن البنية البيانية للعقلية العربية ممثلة في اللاسببية او التجوير، والاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات وان كان هذا الاهتمام منصبا على الثانوي بدلا من الرئيسي عند بوقري.
ان ابرز ما تتسم به معالجة بوقري الفكرية للعقلية العربية تأكيده على انه لا يقصد البنية الكلية لنسق بنيوي واحد يعيش خارج كيمياء الحياة، وليس النسق التاريخي الصارم وانما تلك العقليات المتمايزة والمتنوعة لتمايز بنياتها الاجتماعية واختلاف تركيباتها النفسية ولكنه يستفيد من نتاج الدراسات التي سبقته في نقد العقل العربي وفي الدعوة الى العقلانية, ولعل ابرز ما اشار اليه الانفصال بين نمط الفكر النظري والتجريب، حيث اومأ الى اهمية الممارسة لتغيير بنية العقلية مؤكدا اهمية النقد الذاتي الذي ينطلق من فهم عميق للواقع في بعده التركيبي الذي يستبطن علاقاته ومتغيراته على كافة المستويات ولا يستند الى رؤية ماضوية احادية تستجدي الانقاذ التاريخي على حد تعبيره، ويرجع ازمة العقلية العربية الى غياب بدهيات اساسية منها غياب النظر العلمي التي تتمثل في تخليق رؤية علمية قادرة على لحم الصلة الموضوعية بالقضايا الاجتماعية الواضحة والمتشابكة قادرة على تشكيل العقل العلمي الشمولي، وغياب السببية الاجتماعية حيث يتجسد الوعي اللاعلمي الذي يختلط فيه الذاتي الضيق بالموضوعي الشامل، بل يغلب الذاتي ويصير هاجسا وحيدا بوعي نفعي محدود وافتقار العقلية العربية الى سمات التراكمية والتنظيم والبحث عن الاسباب والشمولية واليقين والدقة والتجريد، وقد ادى غياب التفكير العلمي في الذهنية العربية الى نمو الاستعلائية الممتدة من افقها البدوي.
** ويشير الكاتب الى ان الاتجاه العقلاني في الفكر العربي ابتداء من ابن رشد الذي قال بنظام السببية الطبيعية والذي كان متمثلا لفكر انساني تمثل في فلسفة ارسطو والمفكر العربي الاجتماعي ابن خلدون الذي اشار الى ان العمل الانساني هو الذي يصنع المجتمع مرورا بطه حسين وأضرابه من مفكري النهضة كان يعيش بمعزل عن المجتمع، فالفكر العربي الذي اخضع الظواهر للنظرة العقلانية مكتسبا منطق العقل والاجتهاد ظل منفصلا عن تطور بنيته الاجتماعية، فلم يطبق نظمه المعرفية كبرنامج عمل اجتماعي، لذا كان لابد من ان تظهر الفجوة التاريخية بين الفكر والعملية الاجتماعية، وبهذا يفسر استمرار معاناتنا في عصرنا الحديث من انماط فكرية متخلفة في تعاملنا اليومي في اوساط مستويات تعليمية وثقافية عالية، منتقلا بعد ذلك الى الظاهرة الثقافية ممثلة في رمض الحداثة الشعرية مشيرا الى ان الوعي وحده لا يكفي بل لابد من ممارسته.
وفي اعتقادي ان النظرة التاريخية التحليلية المتعمقة لما يقرب من خمسة قرون من تاريخنا تكشف سبب الخلل البنيوي في تشكيل العقلية العربية، وهذه النظرة لابد ان تستند الى حقائق ووقائع واحصاءات يعاد ترتيبها في اطارها الزمني الممتد، فمنذ ان سقطت بغداد في يد التتار الذين اجهزوا على مراكز العلم والثقافة وأحرقوا المكتبات وكادوا ان يمحقوا الذاكرة الثقافية، ومن ثم الاجتياح العثماني الذي كرس غياب هذه الذاكرة من خلال وسيلتين : الاولى تهجير العلماء والمهرة من الصناع الى الاستانة، ثم التجهيل عبر تكريس الاقطاع العسكري الذي جفف ينابيع الثروة الاقتصادية كما كرس نظرية الاستعلاء الطوارني فيما بعد عبر مئات السنين، وقد ادى ذلك إلى تدمير الطبقة المتوسطة في المجتمع، وهي الطبقة التي تشكل صلب المجتمع المدني بخصائصه العقلية والنفسية.
* من هنا كانت هذه الفترة الممحلة في تاريخنا عاملا من عوامل تغييب المعرفة، وبالتالي غياب الجهاز المعرفي فمثلا في العقل، وحين بدأ عصر التنوير، وعصر النهضة كانت بدايته كبقع الضوء التي تنبثق ثم تنطفىء في شعلة غير متصلة وعبر مبادرات فردية او جماعية محاصرة ومضطهدة او منعزلة عن محيطها الاجتماعي,وقد اصطدمت بعوائق شتى، ثم جاء الاستعمار فحاول فرض ثقافته التي جاءت في اطار الغزو العسكري فكانت الفئة التي تتبناها مكروهة لارتباطها بهذا الغزو، ولم تكن الظروف الاجتماعية لتسمح بالاستفادة منها,وهكذا عبر استيفاء هذا التحليل والغوص الى بنيته العميقة يمكن استكشاف راهن العقلية العربية وبدون الوقوف على هذه المرحلة من تاريخنا تظل عملية التحليل غير مستوفاة.
الغزو الثقافي والتواصل الثقافي:
ويفرق احمد بوقري بين الغزو الثقافي والتواصل الثقافي، وان الغزو لا يتحقق الا بمحاولة اجتثاث هويتنا الحضارية وان مشكلتنا تكمن في التعاطي السلبي مع منجزات الحضارة الغربية فتلك تمثل اشكالية النقل وليس مبدأ الفعل الايجابي المتمثل في الاخذ الواعي والملح مع ما تقتضيه ضرورات الراهن الواقعي/ اداة التطور الاجتماعي واحتياجاته الملحة، كما هي مشكلة تعددية المصادر المعرفية والمصادر التقنية، ومع هذا فانه لا ينكر التغلغل القيمي للغزوة الثقافية ولا ينكر تغلغل المبادىء الفردية في الممارسات الحياتية، ويعمد الى كشف مظاهر ذلك التغلغل وأسبابه.
** ويشير الى خاصية يعتبرها من خصائص العقلية العربية وتتمثل في الفرق في الثانويات كما يراها في اللوحة السياسية واللوحة الاجتماعية واللوحة الفلسفية ويرى ان تحديد الرئيس ضرورة في كل اشكالية تاريخية، فنحن نخضع الموضوعي للذاتي، ونلبس الرئيس للثانوي والثانوي للرئيس.
ويشير في اطار معالجته للعقلية العربية الى تجربة الدكتور الغذامي في الخطيئة والتفكير ويعتبرها اقداما معرفيا نوعيا ناجما عن وعيه بحاجات الحياة الثقافية وان شابه الطابع المثالي في التطبيق كما عبر عن ذلك محمد العلي، فهو لايعطي بالا لمحددات النص الاجتماعية ولا يهتم باكتشاف شروط الواقعية.
واذا كان بوقري يقر بدور الغذامي في مشروعه الثقافي التحديثي فانه يأخذ عليه انه لم يميز بين المنهج النقدي النظري والمنهج الحضاري مستشهدا بقوله ما دامت الامة تريد ان تأخذ بالنهج او بالحضارة الحديثة وتنمو داخلها فهي ملزمة ان تأخذ بمنهاج هذه الحضارة يعني الحضارة الغربية .
ولعلنا نتبين تفاصيل هذا المنحى في الحلقة القادمة من هذه الدراسة.
|
|
|