الفكر الانساني عامة يتلمس أمراض المجتمعات ليعالجها، ومن ثم يأخذ بها الى طرق الوئام والتطور، وهذا ديدن الفكر سواء كان شفويا مرويا يتناقله الناس، أو كان مكتوبا في الألواح والصحائف والكتب، وقد عولجت أمراض كثيرة سادت المجتمعات بالأمثال والحكم المتناقلة، فكم من (مثل) أوقف الحرب وحقن الدماء، وكم من (حكمة) دفعت أصحاب الثراء والمال الى البذل والعطاء وملء بطون الأيتام والفقراء والمعوزين، وكم من (موقف) وقفه مصلح في مجلس ملك أو خليفة أو أمير، ونطق فيه بنثر محكم أو موعظة مؤثرة، أو شعر بليغ قد أقام الميل، وكان سبيلا للاصلاح، ودفع الظلم وجلب الخير لكثير من الناس، والفكر أوعيته كثيرة، منها الشعر، فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: لقد هممت بالفرار يوم صفين، فما منعنى إلا قول عمرو بن الإطنابة الخزرجي:
أبت لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح |
وقد قتل المتنبي بسبب بيت قاله، فعندما ذكر به ثبت في المعركة حتى قتل، ولو تتبعنا الحكم والأمثال الموجودة في شعر بعض الشعراء، من مثل أبي العتاهية، وصالح بن عبدالقدوس، والمتنبي، لوجدنا فكرا جما أسهم في تقويم المجتمعات، منذ أن قيل الشعر الى يومنا هذا، ومن أوعية الفكر (المقامة) التي احتلت مكانتها الأدبية في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، على يد بديع الزمان الهمداني، ففن المقامة يتلمس علاج المجتمع في حلة من اللفظ، إن المتلقي يعجب بالصياغة، وحسن السبك، وجمال السجع، فينشغل بها ولا يفرغ لما تهدف اليه المقامة في مضمونها إلا بعد اكتمال المقامة وعمق التفكير في المضمون.
وفن المقامة يقوم على الراوي ْ وهو في مقامات بديع الزمان الهمداني ْ عيسى بن هشام، وعلى البطل، وهو في مقامات البديع أبو الفتح الاسكندري، وجل مقامات بديع الزمان في الكدية والبطل في تلك المقامات لديه القدرة على التلون، والخداع، في سبيل الحصول على المال، فهو يلجأ الى ضروب من الحيل، ليظهر بمظهر المستحق، ولديه الطرق المتنوعة، التي يصل عن طريقها الى قلوب الناس، فيستدر عطفهم، ويحصل على المال، والمقامات وان كان جلها في الكدية إلا أنها تعالج موضوعات أخرى، فنجد بعض المقامات تتناول القضاء، وبعض المقامات تعالج موضوع الخرافات السائدة في المجتمع, واذا كانت مقامات بديع الزمان هي الأكثر شهرة فإن مقامات الحريري براويها الحارث بن همام، وبطلها أبوزيد السروجي، لا تقل تاثيرا عن مقامات البديع، فمقامات الحريري تتخذ الكدية موضوعا لها في الغالب، ومقامات البديع والحريري تبرز فيهما الصياغة الأدبية بحيث يختفي الهدف خلف القول المعجب، أما مقامات الزمخشري فيظهر فيها الوعظ وتضعف الصياغة، وقد ظهرت المقامة في كل عصر بعد البديع والحريري، حتى وصلت الى العصر الحديث ولكنها لم تتقدم بكونها فنا أدبيا يخدم اللغة العربية في ألفاظها ومحسناتها البلاغية ويعالج أمراض المجتمع، بل توارت خلف الرواية والقصة والأقصوصة، وبما أن جل المقامات الجيدة قيلت في الكدية وبطلها من مهرة المكدين، فإن تلك المقامات يمكن أن تعالج مرضا اجتماعيا استعصى علاجه وهو ظاهرة التسول، ففي كثير من المساجد وبعد كل صلاة يقف أمام المصلين رجل يحمل شخصية أبي الفتح الاسكندري، فيستدر عطفهم بمظهره، أو بمنطقه أو بهما معا، فإذا جمع مبلغا من المال انتظر قليلا حتى تتفرق جماعة المسجد، ثم يسير رويدا الى سيارته التي أبعدها قليلا لئلا ينكشف أمره، وقد يكون أحضر رفيقا له يدفعه في عربة، فإذا حصل على المال، ووصل الى السيارة مع رفيقه، وضعا العربة في السيارة وانطلقا لشأنهما, إن قراءة مقامات البديع، ومقامات الحريري بعد صلاة العصر على المصلين فيها تنبيه لبعض الناس، الذين يعينون بأموالهم على ظاهرة التسول، فالذي يقف أمامهم هو البطل في تلك المقامات, والمسجد يتسع لقراءة الكتب الدينية والاجتماعية، فقد كانت العلوم المختلفة تقرأ في المساجد، وقد كان حسان بن ثابت ينشد الشعر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أذن نبي هذه الأمة لكعب بن زهير بإنشاد قصيدته بما فيها الغزل في المسجد.
د, عبدالعزيز بن محمد الفيصل