نسمع كثيراً عن مقولة شهيرة نصها (أمة في رجل ورجل في أمة) وهي تعني أن بعض الرجال بما يمتلكونه من إيمان وعزيمة وجلد وصبر وحنكة وحكمة وبعد نظر وبما يوفقهم الله إليه من إعلاء كلمة الله وجمع الناس على الهدى والدين, ومايرزقهم من العلم النافع والعمل الصالح، وماينزل لهم في الارض وبين الناس وفي قلوبهم من المحبة والتقدير، وما يهيىء لهم من الرجال الاوفياء المخلصين العاملين الأشداء الاقوياء يمثل أمة، ويؤدي من الأعمال ويدبر من التدابير، ويحقق من الآمال والأهداف والغايات ما لا تستطيعه أمة مجتمعة، وهذا هو ما صنعه المؤسس الموحّد.
وإن من أعظم وأبرز ما حرص عليه رحمه الله هو خدمة الحرمين الشريفين وتهيئة جميع الوسائل والأساليب المادية والمعنوية التي من خلالها يؤدي الحجاج والمعتمرون والزوار مناسكهم وما جاءوا من أجله بأمن وأمان واطمئنان واستقرار وبفضل من الله تحقق ذلك واصبح أمن الحجاج وأمانهم وما يجدونه من حفاوة وحسن ضيافة ووفادة مضرب المثل، وحديث الركبان في مشارق الأرض ومغاربها، بل راحت أقلام الكتّاب على تنوّع درجاتهم واختلاف تخصصاتهم وتباين أجناسهم تعطر مارأوه في المشاعر المقدسة بأم أعينهم، وماعايشوه بأشخاصهم وليس الخبر كالعيان.
يقول الكاتب المصري أحمد حسين مدوّناً تجربته عندما أدى مناسك الحج: عندما ذهبت لحج بيت الله الحرام عام 1934 أو بالأحرى في أوائل ذي الحجة من عام 1353ه كانت شهرة ابن سعود قد سبقته الى اعتباره الرجل الذي أمّن الحج إلى بيت الله الحرام بما لم يسبق له مثيل، بعد أن كان الحج إلى بيت الله الحرام يساوي رحلة الذاهب إليها مفقود والعائد منها مولود، وكان المسلمون الذاهبون الى الحج يتوقعون الاستشهاد ويعدون العدة قبل سفرهم، ومن ناحية أخرى فقد كان الحاج يأخذ معه كل زاده وزواده، ليس فقط لمأكله هو، بل لمأكل الجمل الذي حمله في رحلة الحج، والتي كانت تستغرق بضعة شهور، وقد حدثنا آباؤنا وأجدادنا عن الهول الذي كانوا يلقونه إبان الحج، والشيء المحقق ان حكومة مصر منذ عدة قرون كانت تجهز للحج حملة عسكرية في كل عام, وكان أمير الحج يعتبر أكبر قائد عسكري في مصر بعد السلطان، ولقد عشت طوال صباي أشهد في كل عام استعراض الجيش المصري قبل سفره الى الحج وبعد عودته منه، وكان واسطة العقد في موكب الجيش ما كانوا يطلقون عليه اسم المحمل، وهو هودج محمول على جملين، وقد ظل هذا التقليد متبعاً الى أن ألغاه ابن السعود، إذ لم تعد هناك حاجة اليه بعد استتباب الأمن، والاحاديث تترى عن هذا الأمان العجيب الذي أصبح يسيطر على شبه جزيرة العرب بعامة، وعلى طريق الحج بخاصة.
وقد كانت حكايات لا تكاد تصدق, فقد كان الحاج يُذبح كما تذبح الشاة على مرأى ومسمع من الناس, فلا يستطيع أحد ان ينبس ببنت شفة إلا اذا أراد أن يلحق به، وكثيراً ما كان الحاج يقتل لسرقة ما معه، وحينما يكتشف القاتل ان القتيل لا يملك أكثر من ريال, ويعاتب لقتله مؤمناً من أجل ريال كان جوابه الريال أحسن منه.
وكان لمن يقومون بذلك منطق ظريف جداً يبررون به ما يرتكبونه، وهو ان الحجاج وكل ما يملكونه ليس إلا رزقاً حلالاً ساقه الله لهم، فهؤلاء هم الرزق ومن حق أولئك أن يفعلوا مايشاؤون بهذا الرزق الذي يسوقه الله اليهم، وهم ما كانوا ليتوقفوا عن الإجهاز على الحجاج إلا لأنهم يدفعون حق الطريق، فكل قبيلة تتقاضى ثمن حماية الحجاج في منطقة نفوذها, ولم يجرب أحد الا يدفع.
والحديث يطول، ومن اراد معرفة ماكان يحدث فما عليه إلا ان يطالع احد الكتب القديمة مثل مرآة الحرمين، وفي مقابل هذه الحكايات، اصبحنا نسمع عن الحاج الذي سقطت منه حقيبة نقوده على الطريق العام فظلت حيث هي عدة ايام بلياليها حتى جاء صاحبها والتقطها بنفسه، لأن أحداً لم يكن يجسر على الاقتراب منها ومعرفة أي شيء هي حتى لايقع في محظور، قد روي لنا ان بعض الناس أبلغ عن وجود كيس به بلح في عرض الطريق فعرّض نفسه لكثير من المتاعب، فمن أين له معرفة ان بالكيس بلحاً؟
وجاء ابن سعود الى الحجاز وهيمن على شبه الجزيرة فانتشر الأمن, ومدَّ رواقه في كل مكان, انقضى اليوم خمس وعشرون سنة كاملة، لم يقع فيها حادث واحد اعتدي فيه على حياة حاج أو على ماله، خمس وعشرون سنة كاملة يذهب الناس الى مكة من الشرق والغرب رجالا وركبانا، أقوياء وضعفاء، أغنياء وفقراء يسيرون بالليل والنهار أفراداً وجماعات في ربوع صحراء بلقع موحش، فما اعتدي على واحد منهم، وما ضاع لواحد منهم شيء لم يرُد له، وما سرق واحد منهم غصبا أو بإكراه مسلح أبداً، وإني لأقرر وأنا مطمئن، أقرر بروح الناقد الذي لا يسف في حكمه ولا يشط في رأيه أنه ليس لهذه الحالة مثيل في أي بقعة من بقاع الدنيا.
وليس ذلك إلا من عمل ابن سعود، وليست هذه إلا هيبة ابن سعود التي ملأت السهل والجبل أمنا وعدلا وسلاما .
ويقول الاستاذ عباس محمود العقاد عندما زار الحرمين الشريفين ورأى واقع المملكة وما تتفيأه من الأمن (أما الأمن في المملكة السعودية فقد رأينا في الطريق تلك القلاع التي أقامتها الدولة العثمانية على مسافات متقاربة بين جدة ومكة، لحراسة الحجاج والمسافرين، وما كانت مع ذلك تمنع السطو او تؤمن الناس على الحياة والمال، رأيناها بأعيننا متهدمة مخربة اليوم، لأن الأمن في غنى عن حراستها .
نسأل الله العلي القدير أن يغفر للملك عبدالعزيز وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يجعل ما قدمه للإسلام والمسلمين في ميزان حسناته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
* وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية