العولمة من وجهة نظر أمريكية (4/5) لماذا الولايات المتحدة؟ علي حسين شبكشي |
على المدى الطويل لتاريخ البشرية سنجد انه لم يكتب لأحد من قبل الهيمنة على مقدرات العالم بأن تكون في يد دولة واحدة لمدة طويلة,, واليوم يمكن القول ان الولايات المتحدة التي لم تكن أول قوة عظمى عالمية قد تكون هي القوة الوحيدة الباقية، ذلك ليس لأن العالم قد أصبح أكثر نضجا عن ذي قبل فحسب بل لأن المعرفة الإنسانية كمقوم للقوة قد اصبحت أكثر تشتتاً بين عديد من الأطراف التي تتشارك فيها وأقل انحساراً في حدود طرف واحد أو قوة واحدة بعينها كما كان الوضع في الامبراطوريات القديمة.
القوة الاقتصادية كذلك من المحتمل لها أن تكون أكثر توزيعاً في ايدي دول عديدة,, وفي السنوات القادمة لن يكون في مقدور دولة واحدة الوصول لمستوى قوتها الاقتصادية بمعيار ناتجها القومي الإجمالي إلى نسبة 30% من الناتج العالمي مثلما كان الوضع بالنسبة للولايات المتحدة في معظم فترات القرن العشرين,, نعم لقد عادت قوة الاقتصاد الأمريكي نسبة 30% من الناتج العالمي وأكثر من ذلك فقد عادل الاقتصاد الأمريكي من حيث قوته نسبة 50% من قوة اقتصاد دول العالم في العام 1945.
وتشير بعض التقريرات الى ان قوة الاقتصاد الأمريكي ستصل بنهاية السنوات العشر الأولى من القرن الجديد إلى 20% من الناتج العالمي أي انها ستعادل خمس حجم الاقتصاد العالمي,, وهناك من يتنبأ بأن يحدث انخفاض في هذه النسبة الى ما يتراوح بين 10 الى 15 في المائة بحلول العام 2020 وذلك عندما ستتمكن قوى عالمية اخرى مثل الصين واوروبا واليابان من زيادة مساهمتها في حجم الناتج العالي لنسب تعادل بل ربما تفوق نسبة ماتساهم به الولايات المتحدة .
إن محاولة دولة واحدة مثلما تفعل الولايات المتحدة لفرض هيمنتها الاقتصادية على العالم كله هو هدف يصعب تحقيقه في ظل معطيات الوضع الراهن وبذات المقياس يمكن القول بان إحراز إنجازات عسكرية او سياسية ذات طابع (عولمي) من هذا النوع هو ايضاً امر صعب المنال.
إن الطبيعة التعددية على المستوى العرقي للمجتمع الامريكي جعلت من السهل على الولايات المتحدة ان تعولهم مع العالم بدون ان تبدو تلك الهيمنة قادمة من بلد واحد او ثقافة واحدة,, فالتعدد الثقافي والعرقي في الولايات المتحدة هو عامل القوة الرئيسي في سعيها صوب السيطرة على العالم (العولمة) والذي تتميز به الولايات المتحدة دون غيرها من دول العالم ذات الثقافة الاحادية,, وبمعنى اخر تقدم سمة التنوع العرقي في أمريكا العالم لها على طبق من فضة لا لشيء إلا لان المجتمع الامريكي هو (عالم بذاته).
وعلى سبيل المثال,, فإن اذا سعت الصين الى الوصول الى مستوى هيمنة على العالم فسوف ينظر هذا العالم الى تلك المحاولة على انها محاولة لفرض هيمنة دولة واحدة عليه,, وبمعنى اكثر بساطة,, ان اي إنسان على ظهر الكرة الارضية يمكن ان يكون أمريكياً سواء انصهر في امريكا او ألقت عليه الحضارة الامريكية حممها فصهرته ولكن لا يمكن لاي إنسان ان يكون صينياً,, الصيني وحده هو القادر على ان يكون صينياً.
ان هذا المثال يضع حائلاً امام اية دولة ان تحاول فرض سيطرتها على العالم,, وبناء على ذلك يمكن القول انه عندما يأتي الوقت الذي تبدأ فيه القيادة الامريكية للعالم في الاختفاء لو افترضنا هذا جدلاً فإن المكانة العالمية للولايات المتحدة لن يمكن ان تحتلها دولة واحدة بعينها.
وهنا يأتي السؤال المحوري الهام,, ما الذي ستتركه امريكا للعالم كموروث حضاري دائم لما تتمتع به من ريادة عالمية؟!
إن الاجابة على هذا السؤال انما تتوقف على المدى الزمني الذي ستظل الولايات المتحدة متمتعة فيه بهذه الريادة على العالم,, وتتوفر كذلك على الكيفية التي ستضع به امريكا إطارات المشاركة في القوة معها وهي الاطارات التي يمكن ان تتحول الى إطار مؤسس اكثر رسمية.
ويميل العديدون الى التأكيد على عدم وجود درجة معينة من التيقن فيما يتعلق بالمستقبل وحدود الدور الامريكي فيه,, وهل ستكون امريكا عاجزة بعد ان كانت اكبر قوة عالمية.
ولنبتعد عن القول بأن ديمقراطية الولايات المتحدة وحدها ستكون العامل الحاسم وراء انتشارها كقوة عالمية لأن ديمقراطية التعددية التي تتمتع بها الولايات المتحدة منذوقت طويل لم تؤد في الماضي الى فرض الهيمنة الامريكية بشكل حاسم على العالم ومطلق وان كان يجب ان نعترف بأنها خلقت للنموذج الامريكي في الحكم نفوذه الساحرة لدى الغرب.
وتفيد استطلاعات الرأي العام الامريكي والتي جرت مؤخراً بأن اقلية بسيطة من المواطنين الامريكيين يفضلون صيغة انه في ظل العولمة واعتبار الولايات المتحدة القوة الوحيدة الباقية في عالمنا فإنه يجب عليها ان تكون مسئولة عن حل مشكلات العالم.
اما غالبية الامريكيين فيفضلون ان تتعاون امريكا مع بقية القوى العالمية الاخرى لحل مشاكل العالم,
وتجدر الاشارة الى ان طبيعة المجتمع الامريكي المتعدد الثقافات تخلق صعوبة في الوصول الى اجماع لدى الرأي العام الامريكي فيما يتعلق بتقرير شئون السياسات الخارجية للولايات المتحدة وتوجهاتها إزاء العالم الخارجي اللهم إذا كان هناك ثمة تهديد فوري ومباشر وواضح من الخارج ضد المصالح الامريكية وعندها فقط يمكن للرأي العام الامريكي ان يتبلور على كلمة سواء,.
لقد كان هذا هو ماحدث خلال الحرب العالمية الثانية وتدخل الامريكيين فيها وكذلك خلال فترة الحرب الباردة,, وفي كلتا الحالتين لم يكن اجماع الرأي العام الامريكي على وجوب اتخاذ تحرك معين نابعاً من نجاح النظام الامريكي في ايجاد ديمقراطية عميقة الجذور تخلق ارضية مشتركة للاتفاق الوطني بين الامريكيين,, بل كان هذا الاجماع ناتجا عن شعور الامريكيين بأن تهديداً يدق ابوابهم.
ولكن هذا لايمنع ان القيمة الديمقراطية الوحيدة التي يجمع عليها الامريكيون بوصف ان غالبيتهم من اصول اوروبية هي كراهيتهم للحكم ذي الطابع الشمولي الذي ينتقص من الحريات.
والخلاصة أنه في غيبة وجود خطر خارجي يهدد المصالح الامريكية يكون من النادر ان يتوافر إجماع شعبي بين الامريكيين بخصوص قضايا العمل الخارجي,, ولاشك في ان وسائل الاتصال الجماهيرية ذات الانتشار العالمي والتي تسيطر عليها الولايات المتحدة تساهم الى حد كبير في تشكيل وصياغة الرأي العام تجاه القضايا الواجب فيها على الإدارة الامريكية استخدام القوة,, وقد وجدت امريكا وكذلك وجد الاوروبيون الغربيون انه من الصعوبة مجاراة التبعات الاقتصادية لتراجع القيم الدينية في المجتمع وقد صاحب هذه الازمة الثقافية الدينية بوجه خاص انتشار المخدرات في امريكا وعلاقة ذلك بالمسألة العنصرية.
والواضح ان معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة والعالم الغربي قادرة على مجاراة التطلعات المادية المتصاعدة للافراد وهي التطلعات التي فاقمت منها ثقافة الاستهلاك.
ومنذ نصف قرن تقريبا قال مؤرخ شهير وعالم جيوبوليتيكي هانزكوهن - وكذلك فعل المؤرخ وعالم سياسي اخر هو ماكندر بأن رصد التجربة الأليمة للبشرية في الحربين العالميتين الاولى والثانية وما حدث من ظهور واختفاء نظم ديمقراطية وشمولية والتحديات التي اوجدتها تلك التطورات على اوروبا يؤكد ان الغرب سيصير متعباً ومنهكاً وهو الشعور الذي اكتسب ارضية اكبر خلال سنوات الحرب الباردة بل اصبح مصحوباً بالتشاؤم وانعدام الثقة في المستقبل,, والمهم هو ان هذا الشعور قد انقلب الى النقيض تماماً بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفيتي .
وعلى الرغم من ذلك فإن شبح الحروب لن ينتهي,, والصراعات العرقية ذات الطابع الدولي كبرت او صغرت لا تؤدي الى خطر حرب عالمية جديدة فإنها ولا شك تهدد اجزاء غير قليلة من العالم وتعكر السلم فيها,, ولهذا فإن الحرب من غير المحتمل ان تصبح مستبعدة بشكل مطلق.
وحيث ان الدول التابعة للقوى الكبرى وهي الدول الاقل نمواً قد صارت حركتها محكومة بإرادة القوى المسيطرة عليها والأقوى تكنولوجياًفإن الحرب قد تصبح نوعاً من الترف والرفاهية لا يستطيع القيام بها الا الشعوب الفقيرة التي لا تجد ما تخشى عليه فقدانه من الحروب وتود الحفاظ عليه بعكس الشعوب المتقدمة (الحاكمة) التي تخشى من الحروب على فقدان رفاهية شعوبها,, وهذه الحقيقة عبر عنها فلاسفة النازية في اوروبا بقولهم ان الشعوب الجائعة لاعقل لها,.
وحتى الصراعات الاقليمية وحركات الارهاب اثبتت التجارب ان اسلحة التدمير الشامل,, ولكن الى اي مدى سيستمر هذا الوضع ولا سيما في ظل الاحتمالات المتعاظمة لحيازة دول او جماعات منظمة لادوات التدمير الشامل النووي او حتى البكترولوجية وقدرتها على تشغيل هذه الاسلحة وادخالها ضمن معادلة القوى.
الولايات المتحدة باعتبارها القوة العالمية لا تملك سوى فرصة تاريخية ضيقة للحفاظ على السلام العالمي الذي قد تكون لحظاته قصيرة ومعدودة,, ان هذه الرؤية لمستقبل الاستقرار والسلام العالمي يبرز مدى الحاجة للتدخل الامريكي وللدور الامريكي عالمياً بهدف تعزيز الاستقرار الجيوبوليتكي وانعاش الغرب ومنحه فرصة للتفاؤل بشأن المستقبل,, والحقيقة ان هذا التفاؤل لن يتم إلا من خلال قدرة مزدوجة للتعامل مع قضايا الداخل المجتمعية والثقافية وتحديات الخارج الجيوبوليتكية في آن واحد.
إن قدرة الغرب على عولمة قيمه وافكاره ليست متوقفة على الجهد الامريكي بشكل مطلق,, في اليابان و الهند يبدو واضحاً ان مبادىء حقوق الإنسان والديمقراطية يمكن ان تصلح للتطبيق في آسيا سواء في دولها الاكثر تقدماً كاليابان او الاقل نمواً كالهند وليست تلك المبادئ حكراً في التطبيق على الغرب والإنسان الابيض.
والواقع ان نجاح التجربة الديمقراطية في اليابان والهند هي بارقة امل لمستقبل الخريطة السياسية للعالم ,, ان تجربة الديمقراطية في الهند واليابان الى جانب كوريا الجنوبية وتايوان وما تحققه "الصين" من نمو اقتصادي متواصل كلها تجارب تعطي مؤشرات على القدرة على اشباع الطابع الديمقراطي على نظم الحكم في تلك البلدان وبالذات في الصين ولا سيما في ظل تواصل الجهد الغربي للضغط عليها لتحسين ملفها لحقوق الإنسان والحريات .
إن القيام بتلك المهام ومواجهة تلك التحديات لتلقي بالعبء الاكبر على الولايات المتحدة لمواصلة نشرها لرسالتها الديمقراطية الى العالم ورفع مستوى الوعي العام للعالم النامي بقيم الديمقراطية والحرية ,, ومن ثم فإن الجهد الامريكي لصياغة خريطة جيوبوليتيكية جديدة للعالم لا يزال مطلوباً بالقدر الذي هو مطلوب به للوقوف امام الحركات الفوضوية في العالم وكبح اية تحديات ذات طابع عالمي للسيطرة على العالم من قوى اخرى ,, والهدفان السابقان لا يعتبران منفصلين عند تعريف المسئولية الامريكية تجاه العالم.
وخلال العامين الاولين من حكم بيل كلينتون كانت هناك مسارات متخبطة لمسارات وشكل التوجه الامريكي ازاء العالم والتي تراوحت بين ,.
* دور امريكا في توسيع الرقعة الديمقراطية في العالم.
*دور امريكا في تأكيد الصبغة التعددية.
*الجهد الامريكي المبذول والذي يجب ان يبذل لاحتواء الصين.
وازاء البحث عن دور جوهري للعمل الخارجي واولويات السياسة الامريكية نسي الكثيرون الدور المنوط بالولايات المتحدة القيام به في بناء خريطة تعاون بين قوى العالم تقوم على اساس الواقع الجيوبوليتيكي الجديد المطلوب لشكل العالم ,, وهناك من يرى وفقاً لما كشفت عنه استطلاعات الرأي العام ان اولويات العمل الخارجي للولايات المتحدة في ظل نظام العولمة يجب ان تركز على:
*إقامة شراكة إستراتيجية مع الصين
* تأكيد التوزيع العادل للدخول والثروات عالمياً.
* منع انتشار الاسلحة.
* حماية البيئة.
* منع نشوب الحروب المحلية.
لعل النقطة التي غابت عن اذهان الجميع هي عدم تأكيد احد على دور امريكا في صياغة الخريطة الجيوبوليتيكة الجديدة للعالم اليوم والحفاظ على استقرار تلك الخريطة,, ولذا فإن المخططين الاستراتيجيين يقولون ان الولايات المتحدة يجب ان تعمل على المحافظة على وضع هيمنتها عالمياً لجيل قادم او لجيلين او ربما أكثر من خلال إقامة هيكل جوبوليتيكي عالمي قادر على استيعاب الازمات والصدمات التي لم يمكن تفادي حدوثها وذلك من خلال التعاون الامريكي الاوروبي.
كما ان واجب اولويات المرحلة القادمة في ظل عالم العولمة ان تتم إعادة النظر في هيكل وبنيان الامم المتحدة وتطويره في ظل حاضر وواقع جديد تختلف معطياته تمام الاختلاف عن الواقع والمعطيات التي تأسست في ظلها المنظمة الدولية في العالم 1945م.
وستكون الولايات المتحدة حريصة في ظل العولمة على تأكيد هيمنتها ليس على مستوى الدول بشكلها التقليدي بل على الكيانات الجديدة التي سارت في مدار العولمة من شركات متعددة الجنسيات ومنظمات غير حكومية ومجتمعات علمية وشبكات الاتصالات المعلوماتية مثل الانترنت.
عالم الغد لن تكون وحدته هي الدول بمفهومها التقليدي فحسب بل سيكون هنا عالمان اولهما هو المجتمع الدولي الرسمي ووحداه ستكون الدول التقليدية والآخر سيكون المجتمع الدولي غير الرسمي بمكوناته غير التقليدية التي سبق الاشارة إليها من منظمات غير حكومية وشركات عابرة للقوميات ومجتمعات العلماء والاكاديميين.
ولذا فإن ارتداءامريكا عباءة الوصاية على مقدرات العالم سيكون بلا معنى طالما لم يرتبط بمسئوليات محددة يرتبط بها الدور الامريكي لحفظ استقرار العالم,.
ونختتم حديثنا في عدد قادم بإذن الله,.
|
|
|