شدو عنقاء العولمة وشراك الترف الفكري! د, فارس الغزي |
يشيع بين ظهرانينا! الفكري تداول مصطلح العولمة إلى الحد الذي يكاد أن يقتل بحثاً وتأويلاً وترغيباً وترهيباً ورجماً بالغيب! , ومما يعزز فرضية القتل هذه هو تباين الآراء والمواقف تجاه عنقاء! العولمة: ففريق يرحب بها على علاتها، وآخر يرفض خيرها وشرها اتقاء لشرها، وحزب ينتهج مبدأ الوسطية والاعتدال فلا يمانع النهم من جديدها النافع شريطة التعامل معها بحذر وحيطة وروية, وكما هو واضح، فحدة هذا التباين تجاه ماهية وكنه العولمة قد شارفت الذروة في الوقت الذي لم يتفق المختلفون بعد على تعريف تلك العولمة تعريفاً شافياً كافياً يأخذ في الحسبان حقيقة كونها مصطلحا مترجما من لغة غربية لها الحق كأي لغة بالاحتفاظ بنسبية قرائنها ودلالاتها اللغوية والثقافية, يحدث هذا كله بهيئة ماراثون فكري ليس له من معالم بداية أو نهاية: بل إنه في الحقيقة سباق محموم! تبدو عليه أعراض الصدمة الأولى! قبل الصدمة! مما يجعلك تشك أحياناً بأن العولمة في طريقها إلى الهبوط على الجزء الشرقي! من كوكبنا هذا هبوطاً اضطرارياً وفي غضون ساعات قلائل، رغم أنف اليقين القاطع في أن ارهاصات العولمة قد ترعرعت منذ منتصف القرن العشرين الميلادي، بدليل ما شاع آنذاك من مصطلحات لا تزال حية ترزق إلى يومنا هذا: كالعصرية: Modernism، والتحضر: Urbanization، والحضرية: Urbanism، والقيم العالمية: Universal Values، والرجل العصري: Modern Man، والقرية الكونية: Global Village، وصدمة المستقبل: Future Shock، ومجتع ما بعد الصناعة: Post Industrial Society، والمجتمع الجماهيري: Mass Society,.
إن مثالب استباق الأحداث لا تختلف أبداً عن سلبيات اغفال حدوث الأحداث، ولذا فإنني أرى أن من الواجب علينا مراقبة وملاحظة سير قطار العولمة علمياً مع التركيز على ما يحمل هذا القطار على متنه من انعطافات جوهرية وأكرر جوهرية ذات تأثيرات محسوسة، ومن ثم المبادرة بوضعها تحت المجهر ومتابعة سبر غور عوامل انبعاثها وآثارها وصمودها واضمحلالها,,، مما سوف يقينا من مغبة الوقوع ضحية للاسراف في التنبوء الذي وإن طمأننا نفسياً! فقد لا يتعدى كونه مجرد ترف غرائزي ليس له صلة بالتنبوء المبني على أسس وأطر علمية النظرية والمنهج.
ما هو لب تلك المقالة؟!,, حسناً: تدور تلك المقالة حول السؤال التالي:,, إذا كان من البدهي القول ان العولمة لا تنحصر على مجال حياتي واحد فقط، بل انها ذات مجالات متعددة، وفي ظل اتفاقنا سلفاً، على أن مارد! العولمة قد تم اطلاقه من قمقمه: ما هي إذن أهم المجالات العولمية! التي ترى أنها قد بدأت فعلاً بالانتشار والتوغل مما يفرض علينا، بالتالي، اعطاءها أولوية البحث والدراسة والتمحيص والتركيز؟!,, اجابة على هذا السؤال يبدو أن اغلب الدلائل تشير إلى أن المجال التجاري يبدو أن لديه أولوية التحقق وذلك لعدة أسباب نستطيع ايجازها كالآتي:
أولاً: نتفق هنا على أن العولمة نتاج غربي هدفها ترسيخ سيطرة الغرب على ما ليس هو بغربي, وبما ان المال تاريخياً هو رأس مال ايديولوجية الرأسمالية الغربية وبما ان العولمة، كذلك، أيديولوجية غربية، فالمال إذن هو معول العولمة، بل انه هو العامل الوحيد الذي يضطلع بدور الوسيلة والغاية في آن واحد من أجل تحقيق تلك السيطرة الغربية، خصوصاً ان الاستعمار سواء أكان في صيغته الفعلية السابقة Physical Colonization أم في صيغته اللاحقة والمتمثلة في التبعية أو الاستعمار عن بعد Neo Colonialism طالما وظف المال لأجل السيطرة ثم نهب المزيد من المال.
ثانياً: بما أننا اتفقنا على أن العولمة أداة غربية تهدف إلى سلب المزيد من المال ، فلن نختلف، إذن، حول الحقيقة المتمثلة في ان الاستحواذ على المال طريق للاستحواذ الفكري : بمعنى آخر: نجاح السيطرة الاقتصادية على شعب ما، نجاح في صياغة وتحوير بل ومسخ ثقافة هذا الشعب تلقائياً؟!.
ثالثاً: من الثابت والمؤكد انك توافقني الرأي حيال حقيقة ما يعانيه الغرب من مشاكل اقتصادية داخلية من ضمنها: ارتفاع معدلات البطالة، وغلاء تكاليف المعيشة، وتعاظم أعداد الهابطين إلى ما تحت خط الفقر، وتفاقم المشاكل الاجتماعية كالجرائم، مثلاً، بما لها من أبعاد اقتصادية مكلفة ,, هنا وفي ظل ما سبق ذكره هلا استعرضت في ذهنك ما فعله ويفعله الغرب تاريخياً كلما وجد نفسه في مأزق اقتصادي؟!,, حسناً، ألا تجد أن حيلة الغرب في مثل تلك الظروف تتمثل دائماً في ايجاد حل لمشاكله الاقتصادية خارج حدوده، الأمر الذي يؤكد لنا، مرة تلو مرة، بأن العولمة اقتصادية أولاً .
رابعاً: إنك لو بحثت في كنه ما يشهده تاريخنا المعاصر من ظواهر جديدة لتأكد لديك حتمية العولمة التجارية: خذ، مثلاً، ظاهرة اتساع وشمولية مفهوم الحس الوطني لدى الدول الأوروبية قياساً عما كانت عليه الحال سابقاً، وكيف تحول هذا المفهوم من صيغة ضيقة إلى مجالات أرحب في هيئة حس أوروبي بعملة موحدة اليورو ، واجراءات تجارية/ حدودية تزداد مع الزمن مرونة فاستدماجاً فتنفيذاً!, بل خذ ظاهرة التفرد الأمريكي بهذا الكوكب في وقت يشهد فيه العالم استقلالاً متنامياً لدول لم تكن في الأمس سوى مجرد أقاليم داخل دول؟!, اضافة إلى ما سبق، هل بامكانك اغفال نتائج التحول الجذري للغالبية العظمى من دول العالم من النظام الاشتراكي البائد الى الحرية الرأسمالية,, وتعدد الأسواق المفتوحة أمام الاستيراد,,، وتبلور صيغ جديدة لمفهوم المنافسة : صيغ يؤكد عموميتها أو عالميتها لا فرق اعتمادها على قيم الانجاز ومتطلبات التجارة الحرة,,، وبروز ثقافات استهلاكية في أنحاء متفرقة من العالم ترى في دول أوروبا والولايات المتحدة النمط المثالي للتنمية الشاملة؟!
خامساً: يكفي من الدلائل القاطعة على أن العولمة تجارية أولاً هو أنه ليس هناك مجال من مجالات العولمة لقي من الاهتمام ما يوازي ما لقيه مجالها التجاري من محاولات سبر غور واستقراء آفاق وتفعيل أدوار على المستوى العالمي، وما انعقاد مؤتمري سياتل بامريكا ودافوس بسويسرا سوى اثبات آخر على أن أول صيغ العلومة التي سوف تتحقق على هذا الكوكب ستكون تجارية الطابع ، وبالمناسبة ما هو تفسيرك لانصراف استخبارات الدول العظمى حديثاً عن التركيز على أنشطتها التاريخية التقليدية ذات الطابع العسكري وتكثيف أنشطتها ذات الصلة بالتجسس الصناعي/ التجاري؟!
ختاماً: ما هو واجبنا، مرة أخرى، تجاه العولمة؟!,, إن علينا الأخذ بمبدأ المهم فالأهم عند التعامل مع آفاقها فكرياً، بل انه من الضرورة بمكان عدم استباق الأحداث قبل اتضاح معالم سيرها، اضافة إلى أهمية مراعاة جانب التخصص العلمي وشرط التبحر به ، وبالتالي الحذر من خلط حابل السياسة مثلاً بنابل الاقتصاد، أو الاجتماع، أو أو,.
|
|
|