الميزانية العامة: الواقع والطموح والبدائل المتاحة د, فهد بن صالح السلطان |
منذ عدة أيام أعلنت حكومة المملكة العربية السعودية ميزانيتها العامة، تم فيها ايضاح الإيرادات العامة والمصروفات العامة للدولة موضحة على أربعة أبواب وتتضمن تفصيلاً للمصروفات جغرافياً وقطاعياً.
وباعتبار أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الأقوى اقتصاداً في الشرق الأوسط وتحتل المرتبة الواحدة والثلاثين بين دول العالم من حيث قوة الاقتصاد فان إعلان ميزانيتها السنوية يمثل حدثاً اقتصادياً هاماً ليس على المستوى الوطني والاقليمي فحسب بل على مستوى الاقتصاد العالمي بأسره.
وعلى الرغم من قوة ومتانة الاقتصاد السعودي إلا أن مشكلته تكمن في اعتماده بشكل رئيسي على مصدر وحيد النفط بنسبة تقدر ب 68% تقريباً من اجمالي الايرادات.
ومن المعروف ان المملكة العربية السعودية أكبر منتج للنفط في العالم اذ يبلغ انتاجها الحالي 7,5 مليون برميل يومياً وتمتلك أكثر من 36% من احتياطي النفط العالمي.
ونظراً لأن أسعار النفط تتذبذب ارتفاعاً وهبوطاً بشكل يخرج عن ارادة الدول المصدرة، ويخضع لاعتبارات اقتصادية وسياسية واستراتيجية عالمية فان توقعات أسعاره وبتالي حساب عائداته المستقبلية أمر في غاية الصعوبة.
ومن هذا المنطلق يتضح لنا أيضاً صعوبة اعداد ميزانية المملكة خاصة فيما يتعلق بجانب الايرادات التي تعتمد بشكل رئيسي على عوائد النفط، وصعوبة اعداد الخطط الخمسية الوطنية.
ولعل انخفاض اسعار البترول المطرد خلال الخمس عشرة سنة الماضية يفسر لنا العجوزات في ميزانية الدولة منذ عام 1985 حتى بلغ العجز التراكمي أكثر من أربعمائة بليون ريال أي بنسبة تزيد على 82% من الناتج المحلي الاجمالي في عام 1999م.
ولذا فقد حرصت الدولة ومنذ ذلك التاريخ على تنويع مصادر الدخل وتوسيع القاعدة الاقتصادية أملاً في تقليل الاعتماد على هذه السلعة المتذبذبة, ومن ثم تراجعت حصة البترول في اجمالي الايرادات من نسبة 98% عام 1983م إلى 68% في عام 1999م .
ولعل من أهم ما يميز ميزانية هذا العام هو انخفاض العجز في الميزانية الى 28,000,000,000 ثمانية وعشرين ألف مليون ريال مقارنة بعجز فعلي مقداره 34,000,000,000 أربعة وثلاثين ألف مليون ريال في العام السابق، كما أن انخفاض العجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات للعام 1419/1420ه بنسبة 70,3 في المائة حيث وصل إلى 14600,000,000 أربعة عشر ألف وستمائة مليون ريال فقط مقارنة بمبلغ 49200,000,000 تسعة وأربعين ألفاً ومائتي مليون ريال في العام السابق 1418/1419ه يعد مؤشراً ايجابياً في أداء الاقتصاد الوطني.
ومن المؤشرات الهامة أيضاً النمو الايجابي للنتاج المحلي الاجمالي حيث يتوقع ان يحقق نمواً ايجابياً في قيمته بالأسعار الجارية تبلغ نسبته 8,44 في المائة ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى التحسن الذي طرأ على أسعار البترول خلال النصف الثاني من السنة المالية المنتهية 1419/1420ه, ويقدر الناتج المحلي الاجمالي بنهاية 1999م بمبلغ 521,300,000 خمسمائة وواحد وعشرين ألفاً وثلاثمائة مليون ريال مقارنة بمبلغ 480,800,000,000 أربعمائة وثمانين ألفاً وثمانمائة مليون ريال للعام 1998م.
اضف إلى ذلك استمرارية الأدوار الايجابية للقطاع الخاص، حيث يتوقع ان يشهد نمواً في قيمته تقدر نسبته 2,4 في المائة بالأسعار الجارية و2 بالمائة الأسعار الثابتة.
من المؤشرات الايجابية ايضاً للميزانية اعتماد 8 آلاف مليون ريال لمشاريع تنموية جديدة، الأمر الذي سيكون له دور ايجابي على الاقتصاد الوطني بوجه عام.
ومن وجهة نظري الشخصية فان من أهم الأمور التي يجب النظر إليها في هذا السياق هو حجم متطلبات التنمية أو ما يعرف ب فجوة الطلب على الخدمات خاصة اذا ما وضعنا في الاعتبار النمو المتوقع نسبياً للسكان في المملكة العربية السعودية حيث يتوقع ان يكون سكان المملكة من السعوديين فقط 19,122,397 عام 2005م و22,251,287 2010م.
ولعل من أهم خصائص هذا النمو ارتفاع نسبة الشباب حيث يتوقع أن يكون 70,3% من السكان تحت عمر 29 سنة في عام 2010م وهي فئة لها متطلبات تنموية خاصة من حيث التعليم والاسكان والصحة وغيرها.
واذا ما درست العلاقة بين الاسقاطات السكانية وعوائد الناتج المحلي فان هذا يعني ان متطلبات التنمية سوف تحمل أعباء كبيرة على الميزانية في مطلع القرن القادم وهو أمر يحتاج إلى كثير من التدبر والتخطيط.
أي أن الضغط على الميزانية العامة سيبقى معنا لفترة من الزمن، ولذا فان الأمر يتطلب اتخاذ بعض الاجراءات التصحيحية لتخفيف الضغوط على الميزانيات القادمة، ومن المعروف ان تحسين الأداء المالي يتم من خلال بعدين رئيسيين وهما البعد الاقتصادي ومنهج اعداد الميزانية.
وعلى كل حال فإن البدائل الاقتصادية، قد أشبعت بحثاً من قبل كثير من المتخصصين والباحثين، ولا حاجة لتكرارها هنا، وكل ما أردت التأكيد عليه هو أن هناك ضرورة ملحة للعمل على تحديد الأولويات على المستوى الجغرافي والقطاعي وداخل القطاع الواحد وذلك بشكل منهجي يقوم على أسس ومعايير موضوعية، وتبعاً لذلك فان الأجهزة الحكومية ذاتها مطالبة باعداد ميزانياتها بأسلوب علمي يركز على الأولويات الملحة.
وطالما أننا في بداية العام المالي فقد يكون الوقت مناسبا جداً لقيام الأجهزة التنفيذية المختلفة بمراجعة آلية اعدادها لميزانياتها,, والتركيز في ذلك على الأولويات الملحة,, الأمر الذي يتطلب اتباع منهج موضوعي في اعداد ميزانية الجهة يقوم على معايير منهجية لتحديد أولويات المشاريع وتحديد تكاليفها التقديرية وذلك من خلال الأسس التالية:
1 تحليل تكلفة الثمن والعائد Cost Benefit analysis لكل مشروع مقترح.
2 تحديد التكاليف التقديرية لكل مشروع بشكل موضوعي ومن خلال أحد الأساليب المنهجية لتقدير تكاليف المشاريع.
3 استخدام الأساليب العلمية الحديثة للتخلص من الشحوم الزائدة في المشاريع كأسلوب الهندسة القيمية.
4 اعادة النظر في هيكلة العمل ومنهج الأداء الاداري داخل الجهاز للتخلص من الأعمال والأنشطة التي لا تضيف قيمة للمنتج النهائي للجهاز Non Value adding ويمكن تحقيق ذلك باستخدام بعض الآليات والأساليب مثل اعادة هندسة الأعمال الادارية BPR .
5 اعداد متطلبات الوظائف والقوى العاملة بشكل يعكس الاحتياج الفعلي للجهاز ويحقق أهدافه، حيث يلاحظ أن بعض الأجهزة تقوم باعداد احتياجاتها الوظيفية بما يلبي حاجة الموظفين فقط، وتلبية احتياجات الموظفين أمر أساسي ولكن يجب ألا يكون هو المعيار الوحيد لتحديد الاحتياجات الوظيفية.
6 مراجعة أساليب ادارة النفقات المالية المعتمدة خاصة في الباب الثاني والثالث حيث يبدو أن هناك مبالغات في تكاليف التشغيل والصيانة، واذا ما تم دراسة هذا الجانب فانني أعتقد ان النتائج ستدل على وجود فاقد كبير فيه، ربما يعود لعدة أسباب من بينها سوء الادارة، وسوء استخدام المعدات والأجهزة، وربما الفساد الاداري.
7 العمل على تخصيص الأنشطة غير الأساسية والتي لا تتعلق مباشرة بأهداف الجهاز كالصيانة والحركة والنقل Outsourcing بدلاً من تملك تلك الأجهزة وصيانتها ذاتياً,, وقد اتجهت كثير من المنظمات والشركات في العالم الى التخلص من الآليات والسيارات والأجهزة المساندة والتعاقد على توفيرها عن طريق المؤسسات التجارية المختصة، ومن أمثلة ذلك في المملكة شركة أرامكو التي اتجهت إلى استئجار السيارات التي تحتاجها بدلاً من تملكها، وشركة سابك التي تعمل على تخصيص أجهزة الكمبيوتر.
في اعتقادي ان الأخذ بهذه الأسباب، وغيرها من قبل الأجهزة التنفيذية المختصة سيؤدي إلى نتائج محمودة على الميزانيات المستقبلية لعل من بينها:
1 قيام الأجهزة التنفيذية باعداد ميزانياتها المقترحة بشكل يعكس الواقع الفعلي ويلبي الاحتياجات الضرورية الملحة.
2 التركيز على الأولويات الملحة من برامج ومشاريع التنمية.
3 الحد من المبالغات في تقدير تكلفة المشاريع.
4 تخفيف العبء على العاملين في وزارة المالية باعتبار ان الميزانيات المقترحة للجهات ستعد بشكل موضوعي منهجي.
5 تحسن الأداء المالي في الأجهزة التنفيذية بوجه عام.
6 تقليل نسبة الفاقد والحد من النفقات التشغيلية وبالتالي تخفيف العبء على الميزانية العامة.
اسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه وأن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
|
|
|