بخارى واحدة من اقدم بلاد ما وراء النهر، يدل على ذلك اسمها المشتق من اللفظ الاويغوري بخار الذي ما زال الى اليوم في لغة المغول علما على معبد النوبهار البوذي, وتنسب روايات الترك الشعبية والتي أوردها كل من النرشخي والكاشغري في مؤلفيهما عن احوال الاتراك في آسيا الوسطى الى تلك القبائل الدعوية فضل تأسيس هذه المدينة.
والحقيقة ان بخارى قديمة قدم طريق التجارة بين الشرق الآسيوي والعالم القديم فهي احدى محطاته الرئيسية وقد تولت قبائل الترك والاويغور النازلة حولها مهام تأمين قوافل التجارة من اغارات القبائل البدوية, وكان من البديهي ان تؤثر علاقات التبادل التجاري الحميمة على بخارى واهلها، فمن الصين انتقلت الديانة البوذية الى المدينة ومن ايران عرفت بخارى ديانة المجوس الزرادشتية فضلا عن الاقامة المزمنة لجالية فارسية كبيرة من المشتغلين بالتجارة.
وقد اهتم العرب بفتح هذه المدينة وتم لهم ذلك بصورة نهائية على يد القائد العربي الفذ قتيبة بن مسلم الباهلي, ونظرا للنفوذ الكبير الذي كان لكهنة البوذية والزرادشتية فقد لجأ قتيبة الى تطبيق اسلوب المساكنة اي ان يقيم المسلمون العرب داخل دور من يسلم من اهل بخارى بحيث يتولى العربي المسلم تعليمهم مبادىء الدين الحنيف, ولعل ذلك الاهتمام هو الذي منح المدينة فيما بعد شهرتها في التاريخ الاسلامي كعاصمة روحية في جوف آسيا يقصدها العلماء من كل حدب وصوب للتدريس في مدارسها الشهيرة حتى عرفت ببخارى الشريفة التقية ويكفي ان اهل التركستان ابان عصور السيطرة الروسية القيصرية ثم السوفيتية، كانوا يرون ان ثلاث زيارات لبخارى تعني لهم الكثير جدا.
وقد تقلبت بخارى، ربما اكثر من اي مدينة اخرى في العالم بين النعم والنقم ولكنها خرجت كالعنقاء من وسط الرماد لتعيد تضميد جراحها المرة تلو الاخرى ويشهد على ذلك العدد الوفير من الآثار الاسلامية التي تنسب لعهود مختلفة، ورغم انها قليل من كثير كانت تحفل به بخارى الا ان في بقائها ما ينبىء عما كانت عليه من الازدهار والعمران.
واذا كان جنكيز خان قد احرق بخارى جزاء مقاومتها الباسلة لجيوشه الهمجية حتى لم تبق بها الا بعض قصور ومساجد شيدت من الحجارة، فقد شاءت العناية الإلهية ان يصلنا من عصرها الذهبي قبل جنكيز خان ذلك الضريح الرائع الذي يضم رفات اعظم حكامها الامير اسماعيل الساماني وهو مشيد من الطوب الذي صفت مداميكه بطريقة زخرفية بسيطة.
ويعتبر بمجموعة صفاته التصميمية التي حفظته سليما منذ نهاية القرن الثالث الهجري 9م فريدة من فرائد البناء، وقد استمر تصميم قبة هذا المدفن مهيمنا على تشييد القباب في كل انحاء آسيا الوسطى لخمسة قرون تالية، كما وصلتنا ايضا مئذنة مسجد الجمعة الذي شيد في عهد الخوارزميين,
ورغم ان التيموريين اتخذوا من سمرقند حاضرة لهم الا ان ذلك لم يؤثر كثيرا على اهمية بخارى بل اخذت هذه المدينة تستعيد عافيتها لتزدهر فيها الحياة الثقافية والمنشآت العمرانية بعد فترة اضطراب طويلة عانت خلالها من الحروب القبلية بين الجفتائيين ورثة جنكيز خان.
وتحتفظ بخارى بأكبر عدد من المدارس يمكن ان يجتمع في مدينة واحدة بالقارة الآسيوية وهو ما يشهد بشهرتها كمدينة للعلم والعلماء, ومن بين هذه المدارس تلك المدرسة المعروفة باسم تشور منار اي ذات المآذن الاربع, وقد شيدت في عهد الاوزبك الشيبانيين بالطوب الاحمر الشائع الاستخدام في هذه المنطقة المشهورة في التاريخ بزلازلها المدمرة, وللمدرسة مدخل بسيط من عقد فارسي مدبب تليه قبة ذات قطاع مدبب,
اما المآذن الاربع فجميعها يتكون من بدن اسطواني مستدق لأعلى وان اختلفت نهايات المئذنتين الاماميتين عن الخلفيتين من حيث الزخارف التي نفذت تصميماتها الهندسية باستخدام ا لفسيفساء الخزفية التي يغلب عليها اللون الازرق الفيروزي مع لمسات من اللونين الابيض والاسود, وتنوع الزخارف الهندسية فيما بين اشكال المعينات والمثلثات والاشكال النجمية الثمانية الاطراف الشائعة في الفنون الزخرفية الاسلامية.
وتشترك المآذن الاربع في ان هاماتها مغطاة بشكل قباب صغيرة من الفسيفساء الخزفية وهي الاخرى ذات قطاع مدبب وكأنها تحاكي ايقاع القبة التالية للمدخل.
ويبدو واضحا ان تصميم هذه المآذن قد ترك اثرا عميقا على المآذن الآسيوية وخاصة في اوساط آسيا وافغانستان بل وفي ايران ايضا, وتحتاج هذه المدرسة الى جهود ترميمية واسعة للحفاظ على مكوناتها المعمارية والزخرفية الفريدة.
د, أحمد السيد الصاوي